بعد الموجة الأخيرة للثورة فى الثلاثين من يونيو استمرَّت فقرة تحريف كل التعريفات والمفاهيم.
استُخدمت كلمات كثيرة، لا تعنى مرادفها فى بعض الحالات، وتعنى عكسها فى حالات، وتكون مجرد تنطعات، أو أوهام لقائلها.
سأحاول أن أعرض وأفنِّد بعض تلك الأوهام على عدد من المقالات.
أولًا وهم الحرب الأهلية:
الحرب الأهلية هى إمكانية صعبة الحدوث، الطرف الآخر مهما علت قوته، أو تَمكَّن من سلاح كافٍ ليحارب به، لن يستطع بأى حال من الأحوال إشعال فتيل حرب أهلية لافتقاره إلى المقومات التالية:
1- الإسلاميون ليسوا عرقًا أو دينًا أو جنسًا لكى تنطلق شعلة حرب أهلية حقيقية تستمر بين مكونات المجتمع المصرى.
2- الإخوان كفصيل مهما كان تنظيمه أو تسليحه لا يستطيع التصدِّى لبقية المجتمع.
3- لا يوجد أى دعم دولى حقيقى بجانبهم، يقوم بدعمهم أو تمويلهم، حتى قطر تم تغيير قيادتها، ولم يتبقى داعم لهم سوى قناة فضائية، وحركة حماس التى هى جزء منهم، وأردوغان الذى يشهد محاولات متكررة للإطاحة به، والغنوشى الذى سيؤول إلى مآلهم قريبًا جدًّا.
4- حتى إن حدثت اشتباكات مسلحة «حقيقية، تستمر أكثر من ثلاثة أيام» ستكون مجرد ضربات إرهابية من قِبَل الجماعة، ولن تتوسع إلى حرب شوارع لا يمكن السيطرة عليها.
5- الرفض الشعبى الهائل ضدهم، بسبب سياساتهم خلال عام من حكم مرسى.
6- السيناريو الأقرب للحدوث هنا هو إعادة إنتاج فترة الإرهاب التى ضربت الوطن فى أوائل التسعينيات/أواخر الثمانينات التى بدأت تباشيرها تظهر الآن فى شمال سيناء والتى هى إعادة لما حدث فى صعيد مصر فى التسعينيات.
لكن على الرغم من انتفاء كل إمكانيات حدوث حرب أهلية بشكل كبير، نجد الكثير من المحللين، يناشدون الجيش أو الرئاسة إعلان أحكام عرفية، أو قانون طوارئ.
يبقى السؤال: لما يطالب هؤلاء بتطبيق مثل هذه القوانين الاستثنائية؟
الإجابات كثيرة، لكن ما يهمنى فى المقام الأول سبب واحد.. هو الخوف.
الفرق بين 30 يونيو و28 يناير هو شيئ بسيط جدا، أننا فى 28 يناير كنا بمفردنا نحارب دولة، شرطة ونظامًا عامًّا، وسلطة تنفيذية وتشريعية وقضائية، كنا نقف وحدنا فى مواجهة دولة، من ثَم لم يكن هنا مكان للخوف، فمن استقام فى مواجهة كل هؤلاء، ورأى كل الدماء التى أريقت، لم يعُد أمامه مكان للتراجع، فإن صمد مات، وإن هرب سيتم البحث عنه، وستكون أقل عقوبة هى 15 سنة، وقد تصل فى بعض الحالات إلى الإعدام.
من ثَم بعد الانتصار الأول وخلع مبارك، استطعنا أن نستمر ونضغط، لأننا كنا نعتقد أن الأسوأ قد حدث فى الثامن والعشرين من يناير والثانى من فبراير (حدث ما هو أسوء بعد ذلك، لكننا كنا قد تعودنا).
الآن الوضع مختلف.
قبل الثلاثين من يونيو كان هناك شبه يقين بالنصر، من إمكانية خلع الإخوان فى ذلك اليوم، وانطبع ذلك على أداء المشاركين سواء فى التحرير أو الاتحادية أو غيرهم من ميادين الجمهورية، ودعمه تصريحات للجيش والشرطة والقضاء، كان الكل يحتفل، قبل أن يخلع الإخوان وننجح فى عزل رئيسهم.
فى الثلاثين من يونيو لم يجرب المشاركون فيه أن يتملكهم الخوف، ويتصاعد للدرجة التى تشعرك أنك ستموت فى الثانية المقبلة، ثم تقوم بطرده تمامًا من داخلك، لأنه لم يعد هناك أى فائدة من استمراره... لأن الموت قادم فى أى لحظة، فلا داعى لأن تعيش آخر لحظاتك فى ذلك الرعب، الذى يتحول إلى دفقات عالية من الأدرينالين الذى يساعدك على الصمود/التصدى، ومن ثم المواجهة.
لم يحدث ذلك للمشاركين فى ذلك اليوم، لم يكسر الحاجز الجديد للخوف، فأصبح الترقب المشبع بالخوف هو العنوان لهذه المرحلة التى نمر بها، والذى أدى -بالإضافة إلى بقية الأسباب- إلى حالات التطرف القوية التى نعيشها الآن سواء من الفاشيين الجدد، أو الإسلاميين.
خوف من عودة الإخوان، أو من شبح حرب أهلية تدمر الوطن، وخوف من إعادة تجربة ناصر معهم فى 1954 بعد محاولة اغتياله فى المنشية، التى توسعت بعد ذلك لتشمل أغلب التيارات السياسية المعارضة له والتى كانت تنحصر وقتها فى اليساريين.
فالخوف الآن هو ملك هذا الوطن، هو المتوج على عرش حكمه، فكل الأطراف الآن سواء، الكل خائف من المستقبل، والكل خائف من الحركة المقبلة سواء من الإخوان أو من الجيش - مؤسسة الرئاسة.
فنَدُرَت الأسماء التى تستطيع التحدث، أو التحليل، أو تتكون لديها رؤية مستقبلية معزولة عن حالة الهلع المتكونة عند كل الأطراف. أعلم أننا فى فترة من أقسى الفترات على ضمير أفراد هذه الأمة، سواء تم الاعتراف بذلك أو تجاهله، أو ادِّعاء عكسه، لكن غير مبرر الاستمرار فى حالة الخوف والإنكار الذى يحدث الآن، والذى ستكون نتائجه كارثية على كل المستويات فى المستقبل.
أطمئنوا ولو قليلا.. يرحمكم الله.