حتى إذا فعلت شيئا لله، مخلصا قانتا فإنه من الممكن أن تتغير نيتك فى أثناء فعلها
أصبح اجتزاء نصوص من القرآن الكريم والأحاديث الشريفة ووضعها فى غير موضعها، والاستدلال بها على ما خبث من الأعمال هو آفة العصر، وأصبح البعض خبيرا فى الدفاع عما استعصى على الناس من أفعاله، بتطبيق نص شريف على فِعْله الفاسد ظنا منه أن شرف النص سيطهر فساد الفعل، وأن الناس سيرهبهم جلال النص فلا يناقشونه ولا يعارضونه، ولا يختلف من يستخدم آيات الله وأحاديث نبيِّه فى التدليل على موقف سياسى أو حياتى فاسد، عن صاحب محل عصير القصب الذى كتب على بابه «وسقاهم ربهم شرابا طهورا»، والحلاق الذى كتب على دكانه بخط عريض «وجوه يومئذ ناعمة»!
ومن ضمن افتراءات الاستدلال هذه، قولهم «الحرب خدعة» فى كل كذب بيّن، وافتراء مفضوح، ونقض بالعهود والمواثيق مثبت بالصوت والصورة، وعندما نعود إلى أصل الجملة، سنجد أنها قيلت فى غزوة الخندق، الرسول صلى الله عليه وسلم محاصر هو وصحبه، واجتمع عليه الأحزاب من كل صوب، قريش ويهود بنى قريظة وغطفان -لاحظ أن الأحزاب هنا تعنى القبائل أو الجماعات وليس حزب المصريين الأحرار والوفد وجبهة الإنقاذ- ويأتى إليه نعيم بن مسعود ليعلن إسلامه ويعلن امتثاله لأوامر رسول الله إذا أمر، فقومه لم يعرفوا بإسلامه بعد، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما أنت فينا رجل واحد، فخذِّل عنا إن استطعت فإن الحرب خدعة»، فذهب فأوغر صدر الأحزاب على بعضهم البعض.. هذه هى القصة فأين التشابه بينها وبين ما يحدث سياسيا الآن لكى نستدل بها عليه؟
الكذب محرم بإجماع علماء الأمة فى غير مواقف معينة منها الحرب، وواضح أن «الحرب خدعة» قيلت بالفعل فى حرب، ليست حربا نفسية ولا حربا سياسية، إنما قيلت فى حرب «بحق وحقيقى».. خندق وسيوف ودروع، وليست حرب مؤتمرات فى الفنادق المكيفة التى عادة ما تتمخض عن قرارات عبيطة لا ترقى لفخامة ديكور القاعات.. وضد من هذه الحرب؟ ضد الكفار، ليست ضد ليبراليين ولا علمانيين ولا مفكرين ولا إعلاميين، إنما ضد كفار «بحق وحقيقى».. فلا بد إذا استخدمت هذه القاعدة أن تستخدمها فى حرب وقتال واقع بالفعل، وضد كفار لا يؤمنون بالله ورسوله، وصفة الكفر لا يجوز إطلاقها بناء على فتاوى خبيثة واستشفاف وتوقع، وإنما كفر بيِّن صريح شهد صاحبه أنه لا يؤمن بالله ولا برسوله، وليس الكفر الكاجوال الذى يحيطنا اليوم، وعلامته «من ليس معى ويؤمن بكل ما أعتقده دون زيادة ولا نقصان فهو كافر»!
وحتى فى الحرب، قال العلماء إن المسموح به هو التعريض لا الكذب الصريح، والتعريض أى كما كان يفعل النبى صلى الله عليه وسلم أحيانا، إذا نوى الغزو أعلن عن طريق وسلك غيره للتمويه.. فيقول: أريد الخروج من طريق كذا.. فإن أخلف فهى مجرد إرادة لم تتم وليس -حاشا لله- كذبا من رسول الله.
وإذا كان الكذب والغش وإخلاف العهود والوعود مباحا فى الصراعات السياسية فمتى نصدق إذن؟ نحن الآن فى بحر متلاطم من الصراعات السياسية، ومن الاستقطاب الحاد، وكل طرف -مصرى- يجهز جيوشه العددية والفكرية والإعلامية للإجهاز على خصمه -المصرى أيضا- لا التعايش معه فى سلام، فإذا طبقنا «الحرب خدعة» على تعاملاتنا السياسية فلن نصدُق أبدا، ماذا ينقصنا للفُرقة أكثر من هذا؟ عندما يستخدم طرف هذه الجملة فكأنه اعتراف وإقرار منه بأن الطرف الآخر كافر، وأنه معه فى حرب فعلية بدايتها الكلام وأوسطها المولوتوف ونهايتها لا يعلمها إلا الله.
إن الدول الغربية -الكافرة- التى تغاضينا عن تقدمها وعلمها ورقيها وتشدقنا بفجورها وحربها على الإسلام، تتسم للأسف بشفافية سياسية وصدق مع شعوبها ليس موجودا فى شعوب، المفروض أنها تقف تحت راية الإسلام الشامخة التى عنوانها الصدق والأمانة.
والأمر لم يعد اختياريا، فهذا الشعب الذى ثار فى سنتين مرتين، لن يوقفه بعد اليوم سوى الصدق من حكامه والبر بالوعود، ولن يُصدِّق أبدا من يقول له الآن «الحرب خدعة».