أعلم أنك فكرت كثيرا فى عيوب الاعوجاج، لكن هل فكرت يوما فى عيوب الاستقامة؟
لا، لن أتحدث عن العيوب «الوهمية» التى يتحدث عنها الفنانون حين يقول الواحد منهم فى حديث تليفزيونى «أنا عيبى إنى دوغرى ومستقيم، فالناس مش بتستحمل كده».
إنما أتحدث عن العيوب الحقيقية للاستقامة. وسأبدأ طبعا من أبرز مستقيم. الخط المستقيم. الخط المستقيم خط معروف بدايته ونهايته. ليست هذه مشكلة أبدا. كل إنسان فينا يعرف بدايته، ولديه طموح أو غاية معينة. المشكلة الحقيقية فى الطريق. الخط المستقيم معروف البداية والنهاية، ومحدد الطريق سلفا. أخرابى!!
يعنى اللى عايز يعمل لك كمين، هيعرف فين يعمل لك كمين. اللى عايز يسيبك تمشى، «خليهم يتسلوا»، وبعدين يستناك عند حتة معينة وياخد كل اللى جمعتيه هيقدر يعمل كده.
هذا لا يعنى أبدا أن أسلوبهم أفضل. لأن هؤلاء قطاع طرق اجتماعية. ولو تحول المجتمع إلى قطاع طرق لن يتقدم إلى الأمام خطوة.
إنما هذا يؤكد أن «الاستقامة» ليست صفة مدح مسلما بها كما نوحى فى كتاباتنا وأدبياتنا. حتى لو تغاضينا عن واقع «نسبية» الاستقامة. وأن ما يبدو لك مستقيما يبدو لغيرك انحرافا عن المنطق.
تستطيعين أن تسيرى مستقيمة، لأنك لا تملكين إلا أن تسيرى مستقيمة. لا تعرفين الطرق الجانبية، لا خبرة لك بها. وربما تعتقدين منطقيا أن الطريق المستقيم أقصر طريق بين نقطتين.
هذه استقامة فاشلة. اعذرينى.
إنما تستطيعين أن تسيرى مستقيمة، لأنك أمنت الطريق المستقيم. لأنك فى البداية أظهرت لمن حولك أنك تفضلين أن تسيرى مستقيمة، لكنك أيضا أظهرت أنك لا تمانعين لو أحسست بالغدر أن يكون لك تصرف آخر، موجع، ومفاجئ، أعوج أو مسنون. ولأنك بينت من البداية أنك شخص «عُقر» وبنت شارع، وتعرفين ١٠٠ طريق جانبى. فإن أحببتم أن نسير مستقيمين ونتعاون كلنا معا، فأنت لها. وإلا، فالبادى أظلم.
الاستقامة النافعة لديها من الوسائل ما تحمى به «طريقها»، ولديها من العقل الراجح ما تزن به النافع من الضار. أما الاستقامة الفاشلة فاستقامة ركون إلى الطريق المرسوم سابقا، وإحساس بالأمان فيه، واستحلاء للإحساس بالظلم (ويا بخت من بات مظلوم ولا باتش ظالم).
فكرى فى القادة الناجحين عسكريا. علام تمدحينهم؟! الاستقامة فى التفكير، والإصرار عليه، هنا مهلكة. لأنها سهلة التوقع. القدرة على المناورة والمفاجأة وردع الأذى بمثله لو دفعتِهم إلى ذلك، صفات أساسية. إلى جانب، طبعا، النظرة البعيدة، الشاملة، واسعة الأفق. التفكير المستقيم لا يغطى النقاط الحيوية هنا، بل التفكير الفضولى الذى «يدعبس» فى الدهاليز كما فى الطرق الواسعة الواضحة.
قد تقولين هنا إننى أستخدم لفظة «الاستقامة» بمعنى غير الذى تستخدمينه به. وإنه لا مانع من الجمع بين الاستقامة والابتكار. وهذا اعتراض وجيه فى حالة واحدة. لو كنا متفقين على النقاط التى ترسم الاستقامة. إن كثيرا من النقاط فى الخط المستقيم الذى تنظرين إليه لا تستحق أن تكون هناك. فهى ليست أخلاقا حميدة حتى ولو سميناها كذلك. وهى معوقك الأساسى عن الابتكار، قيدك عن الخروج عن الخط المرسوم لك. كما أن أعدادا أكبر من النقاط فى الخط المستقيم إيجابية، لكنها فى نفس الوقت معتلة النسب. بمعنى أن طبختها فيها مكونات مش متوازنة. إفراط فى الحياء ينعكس سلبا على الشخصية. إفراط فى «الصوابية» يشتت الأنظار نحو توافه بينما تتسرب الحياة الحقيقية، المليئة بالكفاح والطموح والعمل، أو الراحة والدعة، أو المجاهدة، أو المتعة، من بين يديك. إفراط فى الصدق، أو فى الصراحة، غير مفهوم الجدوى.
كما أننا نتحدث عن الاستقامة بطول الخط. إن الامتحانات تبدأ مبكرة، ثم تتصاعد مستوياتها، مثل الفيديو جيم. فى كل مرة تختارين الخط المستقيم الذى تعرفينه تعتقدين أنك أنجزت إنجازا. من يعلم! ربما بتفكير أدق، فى مرحلة أخرى، تكتشفين أنك فى الواقع ضيعت فرصة. لا بأس. فى المرة القادمة لا تختبرى «الخيار المستقيم» فقط. فكرى فى كل الخيارات.
إن المشكلة الحقيقية فى الاستقامة ستبقى أنها دائما فى اتجاه واحد. وكفى بها مشكلة.