عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه».
حديث يحفظه الجميع، وهو من الأهمية فى الدين بمكان، حتى إن بعض العلماء لخص الدين فى حديثين شريفين، الحديث السابق وحديث رسول الله «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد»، وفسروا ذلك بأن الحديث الأول يختص بباطن العبد ونياته، والحديث الثانى يختص بظاهر العبد وأعماله، وما الإنسان إلا باطن وظاهر، نيات وأعمال.
وهذا الحديث ببساطة يضع كل واحد منا أمام نفسه.. هل تُخلِص النية فى أفعالك؟ والسؤال واضح.. نتحدث عن النية لا عن الظاهر.. نتحدث عن السبب الحقيقى الذى يكمن خلف ما ينطق به لسانك وتتحرك به جوارحك، وحتى إن كانت نيتك خالصة، فهل تأكدت أصلا من أن فكرتك حقيقية صالحة تستحق التضحية والفداء؟
وفى الحديث أن أول من تُسعر بهم النار يوم القيامة جامع للقرآن، ومقاتل فى سبيل الله، ورجل كريم جواد، يسألهم الله سبحانه وتعالى ماذا فعلوا، فيقول أولهم: قرأت القرآن آناء الليل وأطراف النهار، ويقول ثانيهم: جاهدت فى سبيلك، ويقول الثالث: كنت أتصدق، فيكذبهم الله سبحانه وتعالى والملائكة، فقد فعلوا كل ذلك ليقال هذا قارئ وهذا جرىء وهذا جواد.. فالأمر فى النهاية بالنية التى لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى مهما كان صلاح الفاعل ونبل الغاية والجهاد فى سبيلها.
حتى إذا فعلت شيئا لله، مخلصا قانتا، فإنه من الممكن أن تتغير نيتك فى أثناء فعلها، فتتحول النية من الإخلاص لله وحده إلى نية خالصة لوجه البشر والنفس.. ولهذا عندما كان على بن أبى طالب كرم الله وجهه يقاتل فى معركة وتمكن من خصمه بعد أن جرحه، ورفع سيفه ليقتله، بصق خصمه فى وجهه كرم الله وجهه، وهنا تركه على رضى الله عنه وانصرف، ولما سئل قال: لقد كنت أقاتله لله، فلما بصق فى وجهى أحسست بأنى أريد الانتقام لنفسى فتركته.. حتى وهو يجاهد فى سبيل الله وهو من هو فى التقوى والصلاح وقربه ونسبه من رسول الله، ومبشر بالجنة، ورغم ذلك كله يراقب نفسه، كلما زاغت نيّته قوَّمها.. هو خرج لله فليكمل جهاده لله لا من أجل انتقام لنفسه.
والإمام ابن الجوزى يأتيه أجله فيبكى، فيهون عليه من حوله: يا إمام.. أحسن الظن بالله، ألست من فعلت ومن فعلت.. يبكى ابن الجوزى، لأنه عالم يعرف ما لم يعرفه تلاميذه ومريدوه، يعلم أن حسابه ليس بما فعله أمام الناس، وإنما بنيته الخالصة لله، ولذلك يقول باكيا: والله ما أخشى إلا قول الله تعالى «وبدا لهم سيئات ما كسبوا»، أخشى أن أكون فرطت وخلطت ونافقت.. ابن الجوزى مع كل علمه وفضله يخاف أن تكون نيته الخالصة لله قد اختلطت بما يعكرها.
ولهذا فإن اعتقاد بعض الناس أنهم ختم الصلاح والتقوى لأفعال ظاهرية يفعلونها، أو ملابس يلبسونها، أو ألفاظ ينطقونها، واعتقادهم أنهم من يوزعون صكوك الرحمة والتوبة على خلق الله، كل هؤلاء -فى اعتقادى- لم يفهموا حديث رسول الله «إنما الأعمال بالنيات»، رغم حفظهم وشرحهم له، والتشدق بألفاظ مثل: «أنا كنت زيك بس ربنا هدانى» «اعمل زيى وخليك مع ربنا» «انت ماكنتش كده، انت كنت زمان بتحب ربنا والدين».. كل هذه الألفاظ توحى بأن قائلها للأسف «لسه جديد فى الكار، والغربال الجديد له شدة».. ففقه الدعوة إلى الله يستلزم الحكمة والموعظة الحسنة والتبسط مع الناس والتوحد فى الشكوى من الذنوب، ليعلم المستمع أنه ليس وحده الذى يذنب.
تقرب إلى الله كما تشاء، ولكن أرجوك لا تنصب نفسك حاكما على الناس، وبدلا من أن تسأل أحدا عن إخلاص نيته، تأكد أنت من إخلاص نيتك.