إن كنت قد عشت مثلى نصف عمرك فى روسيا، ستتفهم لماذا تستدعى الآن ذاكرتك حوادث بعينها وقعت هناك فى نهاية التسعينيات، لتقارنها بما جرى مؤخراً فى مصر. وما يزيد الرغبة فى المقارنة أنى أكتب الآن من موسكو التى أقضى فيها إجازة، بعد مهمة عمل غطيت فيها من القاهرة أحد أهم الأحداث فى التاريخ المصرى المعاصر، وأقصد طبعاً ثورة 30 يونيو.
أما وجه المقارنة فيتمثل أساساً فى الظروف التى مرت بروسيا عام 1999 تحديداً، والتى تشبه إلى حد كبير حالة مصر طوال العام الذى تولت خلاله دفة الحكم جماعة الإخوان المسلمين، عن طريق ممثلها الدكتور محمد مرسى.
فى المشهد الروسى كانت البلاد على شفا الانهيار الاقتصادى من جهة، وفى مواجهة خطر تفكك كيانها كدولة فيدرالية من جهة ثانية، ساعد على ذلك أن الرئيس بوريس يلتسين، بلغ آنذاك قمة ضعفه، وانهارت شعبيته نتيجة نكوصه عن عهوده، وتسليمه زمام الحكم لمن كان يعرف بـ(العائلة)، وهى مجموعة صغيرة من حاشيته المقربة، تضم ابنته (تاتيانا) وزوجها ورئيس ديوان الرئاسة وعدداً من رجال الأعمال اليهود المتهمين، شعبياً، بالفساد ونهب ثروات البلد ممن كان يطلق عليهم (الأوليغارشيا).
كان القرار الفعلى بيد تلك (العائلة)، ولم يتبق ليلتسين سوى الظهور ليلقى خطابات غارقة فى الكوميديا، ومليئة بالقفشات التى أصبحت جزءاً أساسياً فى برامج تليفزيونية فكاهية لا يبذل أصحابها مجهوداً كبيراً فى الإعداد، إذ كان يكفى عرض مقاطع من خطابات الرئيس ليحصد البرنامج نسبة مشاهدة تفوق الخيال!
أمام ذلك وغيره خرجت المظاهرات الحاشدة تطالب بتنحى يلتسين، دون أن يتوقف منظموها أمام حقيقة تقول إنه أول رئيس منتخب فى تاريخ روسيا الحديث. كان الواقع مريراً إلى درجة أصبح معها التفكير فى استمرار الرئيس المنتخب مقامرة على بقاء الدولة، فعدا غلاء المعيشة وانخفاض قيمة العملة المحلية (الروبل) وارتفاع مستوى البطالة وتدهور الحالة الأمنية، كان نشاط الحركة الانفصالية فى الشيشان قد وصل أوجه، حتى بات انفصال تلك الجمهورية عن الفيدرالية الروسية مسألة وقت، فيما كانت جمهوريات وأقاليم أخرى خاصة فى شمال القوقاز تترقب وتستعد لاستنساخ السيناريو الشيشانى، الذى كان يعنى نجاحه انهيار الاتحاد الروسى كما جرى مع الاتحاد السوفيتى!
كل ذلك عجّل بظهور رجل اسمه فلاديمير بوتين سيصبح عما قريب الزعيم الذى يعيد لقب (القوة العظمى) لروسيا، بعد أن كانت على وشك الدخول فى قائمة جمهوريات الموز!
هل ترى عزيزى القارئ حتى الآن وجهاً للمقارنة بين روسيا- يلتسين ومصر- مرسى؟!
طيب اسمح لى أن أكمل..
جاء بوتين من عباءة يلتسين، اختارته (العائلة) ليكون ممثلها فى الكرملين بدلاً من الرئيس الضعيف صحياً وسياسياً، رأت فيه وجهاً جديداً وسياسياً مغموراً يضمن لها مصالحها الاقتصادية الضخمة داخل البلاد وخارجها بعد أن أيقنت بضرورة عدم إكمال يلتسين فترته الرئاسية، ليس من باب الخوف على مصلحة الوطن، بل رغبة فى تسيير الدفة خلف الكواليس، لكن عن طريق ربان جديد! غير أن عقيد الكى جى بى المتقاعد، اختار الانحياز للدولة مع تقديم ضمانات عدم الملاحقة القضائية للرئيس وفق اتفاق جنتلمان يُبقى يلتسين فى الظل مستمتعاً بقضاء وقت أطول فى اللعب مع أحفاده. لم يعتبر بوتين أن من المفيد الدخول حينها فى مواجهة مع معسكر يلتسين..أرجأ ذلك ولم يهمله!
لم يمر وقت طويل حتى تجرع يلتسين وعائلته مرارة الندم على اختيار بوتين. اعتبروه خطأ قاتلاً، بينما عده كثيرون أفضل إنجازات الرئيس المتنحى!
اعتمد بوتين على الجيش لإعادة هيبة الدولة التى فقدتها فى حرب الشيشان الأولى. فى أغسطس 1999 هزت سلسلة تفجيرات العاصمة موسكو، اتُّهم المقاتلون الشيشان بتدبيرها، فردّ بوتين بمقولته الشهيرة: (سنلاحقهم حتى داخل دورات المياه). لم يكن حينها قد وصل إلى عرش الكرملين، لكنه كان قريباً جداً منه، وعندما دان له الأمر لم يعبأ كثيراً بصراخ الغرب وتهديداته حين بدأت الحرب الشيشانية الثانية.
فى ذلك الوقت كان الشارع الروسى متعطشاً لرؤية قيصر جديد، يسترد منزلة البلاد التى فقدتها فى عهدى جورباتشوف ويلتسين، لهذا السبب تحديداً يفسر غالبية المحللين لماذا غفر الروس لبوتين تجاوزاته فى الشيشان، ولماذا صعدت شعبيته بعدها، لماذا لم يربطوا نجاحه فى وقف التدهور الاقتصادى باعتماده بشكل كبير على ارتفاع سعر النفط، ولماذا غض معظم المجتمع الروسى الطرف عن تقييد حرية الإعلام وملاحقة المعارضين وتبادل الأدوار مع مديفيديف فى منصبى الرئيس ورئيس الحكومة؟!
فى عام 2007 أجريت حواراً مطولاً مع بوتين اعتبرته صحيفة (وول ستريت جورنال) بداية حرب باردة جديدة بين موسكو والغرب. حدثنى الزعيم الروسى بفخر عن ترسانة بلاده النووية وعن تحديث الجيش، ولم يتردد فى الإجابة بنعم عندما سألته: هل أفهم من كلامكم أنكم تستعرضون عضلاتكم؟! فى العام التالى كادت القوات الروسية تدخل (تبليسى) عاصمة جورجيا، حليفة واشنطن، رداً على مغامرة الرئيس الجورجى ساكاشفيلى العسكرية فى استعادة جمهورية أوسيتيا الجنوبية، التى أعلنت انفصالها من جانب واحد واحتمت بالدب الروسى! كان بوتين يحكم حينها من خلف الستار، لم يخش واشنطن ولا حليفاتها الأوروبيات، خضع الجميع لإملاءات القيصر، كما أذعنوا لشروطه بشأن سوريا فى قمة الثمانى الكبار الأخيرة.
اتفق أو اختلف مع بوتين لكنك فى النهاية ستجد نفسك أمام نموذج زعيم وطنى، أثبت خلال عامه الأول فى الحكم حنكة سياسية فريدة.. لم يرهن إرادة بلده لجماعة أو لدولة، ولم يقامر بمصالحها ولم يعبث كهاوٍ بأمنها القومى.. استخدم، ولايزال، ما تملك روسيا من أوراق القوة فأعاد لها وزنها الثقيل فى الساحة الدولية، وقبل ذلك كله جاء ليلعب دور المنقذ ليجنب البلاد انهياراً كان محتوما، فاستحق احترام الخصوم قبل المؤيدين.
من هنا أعود عزيزى القارئ إلى سؤالى الأول: هل تجد أن المقارنة منطقية بين روسيا- يلتسين قبل التنحى ومصر- مرسى قبل العزل؟ بغض النظر عن إجابتك اسمح لى بطرح السؤال الأهم: هل أبالغ لو قلت إننا فى أمس الحاجة الآن بالذات إلى بوتين مصرى؟