اختلف الزمان واختلف الحاكم وبقيت الثورة مستمرة تصر على نفس مطالبها وتخرج من نفس أماكنها ونفس أشكال ثوارها.. ولكنها في كل مرة تواجه صعوبات تكون أكثر تعقيداً من تخطي سابقتها.
إعتقد البعض أن ثورة يونيو أسهل من يناير بمراحل عدة وربما لا تقارن بها .. فالنظام الذي خرجت عليه ثورة يناير نظام معقد ومبهم في جزءٍ كبير من تركيبته وتكوينه ولهاذا سميت دولة هذا النظام بـ «الدولة العميقة» .. المسافة بين سطحها وقاعها كالمسافة بين رئيس الجمهورية وعمدة القرية .. بين وزير الداخلية وشيخ الخفر .. وزير المالية وصراف مكتب البريد .. بين وزير الدفاع ومندوب التجنيد .. بين وزير الإستثمار وصاحب الكشك .. بين وزير الرياضة وفراش مركز الشباب.
كل هؤلاء بعد ثورة يناير بعامين يتفاخرون بأنهم كانوا فلولاً .. بل يحب أن تناديه بهذا اللقب ... هل تخيلت حجم هذا النظام طولاً وعرضاً وعمقاً وكيف كانت صعوبة ثورة «يناير» التي قامت عليه ثورة وبشاعة وحجم المواجهة ؟!
النظام الذي قامت عليه ثورة «يونيو» لم يكن سوى غلاف جديد وضع بطريقة غير محكمة نابعة من إنعدام الحرفية على ذلك النظام العميق الذي لم يتغير فيه سوى الغلاف الذي وضع بطبيعة الحال قائماً، مع وجود نظام جديد قرر أن يسلك الطريق السهل وهو تغيير العبوة والإستمرار على نفس المنتج الفاسد .. وأن يضع صبغة على مياه بحر النظام العفنة كي يغير شكلها ليبدو للجميع وكأنها تغيرت بدلاً عن أن يغطس شبراً واحداً في بحر ذلك النظام العميق فهو لا يعرف الغطس، ولم يستعين بمحترفي الغطس من القوى الوطنية المنتشرة بطول مصر وعرضها .. بل بحماقته قد إتخذ منهم أعداءاً له من دون حاجة لأعداء أكثر من أعداء الثورة منذ يومها الأول، وبالتالي لم يستطع فتح البلاعة التي في القاع كي يصفيه ويطهره ثم يملأه من جديد بمياة نظيفة تعبر بطهارتها ونقائها عن مطالب ثورة يناير.
فما كان من الغلاف الجديد للنظام القديم إلى أن تم تقشيرة وبسهولة تامة بعد أن إتخذ الأمريكان من دون جميع المصريين حلفاء وحراس للنظام .. معتقداً أنهم حماته من الشعب الذي جاء به ونسي «أن من صعد الجمل النخلة هو وحدة القادر على أن ينزله على جذور رقبته»
وها هي النتيجة إذاً .. نظام عميق وبضع قشور لغلاف متناثرة على الأرض.
المعروف للكافة أن إسقاط الأنظمة القديمة .. إما أن تكون بضربات قاضية من البداية أو من خلال مصالحات تجبرها على الذوبان في نسيج الوطنية حفاظاً على وحدة المجتمع .. وهذا يعتمد على مدى قوة تلك الأنظمة، أو على مدى قابليتها لتطهير أنفسها وإستغلال تلك الفرصة الأخيرة وعفا الله عن ما سلف «إلا في الجرائم الكبرى» والتي سيحددها قانون ومشروع ما يسمى «بالعدالة الإنتقالية والمصالحة الوطنية».
وأياً من الخيارين يعتمد بشكل كبير على طبيعة نظام ما بعد ٣٠ يونيو من حيث رؤيتهم في الإجابة عن تلك الأسئلة الأساسية:
- كيف يستطيع ذلك النظام الجديد أن يصفي مياه البحر القذرة بقشوره الجديد المتساقط بعد الثورة ؟
- كيف سيتعامل مع ذاك الإرث المفجع الذي تركته تلك الأنظمة ؟
- هل سيستفيد من تلك التجارب الفاشلة في إنشاء نظام يحقق طموح الثورتين معاً ؟
- هل سيعيد انتاج السلطة بمفهومها الحديث وبغلاف ديمقراطي جديد ؟
- هل رؤيته السياسية والإقتصادية مبنية بالأساس على مفهوم العدالة الإجتماعية بثوابتها ومتغيراتها ؟
فيما يبدو للجميع من خلال التوجهات العامة والميول الشخصية لرجال نظام ما بعد ٣٠ يونيو تشير إلى أنهم ينتوون أن يبيدوا كل خطايا تلك الأنظمة العفنة مستعينة بالكفاءات والعقلاء في هذا البلد حتى وإن كانوا خصوماً سياسيين لهم بشكل حضاري، وتثبيت مباديء وقوانين وممارسات حكم تقوم على أسس ديمقراطية عقلانية تكون المصلحة الوطنية هي الغاية الأَولى والأعلى مع إحترام الوسائل التي تقودهم إلى هذا .. فيجب الإبتعاد تماماً عن المافياوية الولائية بل ويحاربها، ويكون البناء على أسس يستطيع من خلالها أن يعيدوا بناء ما خربه النظام العميق سابقاً والغلاف الرديء الذي لحقه بعد «يناير».
أعتقد أنه ومن خلال وجود رمز يتسم بالخلق السياسي كـ «محمد البرادعي» وفكرته في إستحداث وزارة للعدالة الإنتقالية يترأسها «محمد أمين العباسي» ، والمشروع المتميز للعدالة الإنتقالية والذي تم تقديمه على طاولة النظام الجديد والمقدم من «ناصر أمين» رئيس المركز العربي لإستقلال القضاء وحقوق الإنسان .. أن طريق المصالحة الوطنية والعدالة الإنتقالية قد بدأ فعلاً .. ولم يبقى سوى الإخلاص وصدق النوايا من جميع الأنظمة الحالي والسابقة .. وأن يؤمنوا صدقاً ويتيقنوا حقاً قولاً وفعلاً أنها أصبحت فعلاً أنظمة سابقة.