فى عام 1940 ترجم الفنان الكبير «تشارلى شابلن» قلقه من صعود النازية فى أوروبا إلى فيلم «الديكتاتور»، كان يسخر فيه من هتلر والدوبلير الذى يختفى خلفه، وقد حاول هتلر التغلب على أثر الفيلم فى نفوس المتفرجين الألمان، فقال: «إنه شاهد هذا الفيلم أكثر من مرة وأضحكه كثيرا»، ولكنه لم يتحمله بعد ذلك فأمر بمصادرته، وظل الفيلم ممنوعا من العرض فى أكثر من دولة لسنوات طويلة، لأن حفنة الحكام الذين صعدوا فى أعقاب الحرب العالمية الثانية كانوا أميل للديكتاتورية، وكان كل واحد منهم يعتقد أن الفيلم ينطبق عليه.
وقد استغلت فكرة التشابه فى أكثر من عمل درامى، ربما كان أشهرها «سجين زندا» من تأليف أنتونى هوب، ويعرفها كل طلاب الثانوية العامة، والأمير والفقير لمارك توين، وتحول فيلم «الديكتاتور» بنصه تقريبا إلى عشرات الأفلام الأجنبية والعربية، استغله نجيب الريحانى وفريد شوقى وهناك مسرحية شهيرة للفنان عادل أمام اقتبست عن الفيلم وتغير اسمها إلى «الزعيم».
ولكن الذى يعلمه الكثيرون أن جذور هذه الفكرة موجودة فى التراث العربى، قبل شابلن وأنتونى هوب، وقد وقعت أحداثها فى أثناء الحكم العربى فى الأندلس، بعد أن تفرق الحكام العرب واختلفوا كعادتهم وقضوا على حلم الأندلس الموحد، تفتت الدولة إلى مدن وممالك متحاربة، وتحول الحاكم الأموى الواحد إلى عشرات من ملوك الطوائف، وبدأ حلم الأندلس الزاهى فى السقوط، ولكن الناس ظلوا يحلمون بعودة للأندلس كما بدأ، تحت إمرة حاكم أموى جديد يمسك بناصيته، كما فعل صقر قريش عبد الرحمن الداخل، كان آخر حاكم شاهدته الأندلس من نسل بن أمية هو هشام المؤيد، الذى كان يحكم مدينة قرطبة، كان ملكا ضعيفا تتوقف همته خلف أسوار مدينته، ولكن أصوله الأموية أعطته نوعا من التبجيل، بحيث أصبحت كل قرية تتمنى أن يفرض سيطرته عليها، ولكنه اختفى فجأة وترك العرش خاليا، ربما تم اغتياله على يد اللصوص فى إحدى رحلات الصيد، أو اختطفه الفرنجة ولم يعلنوا عن ذلك، أو وقع فى هوى غجرية وهجر متاع الملك من أجلها، أيا كان السبب، لم يصدق أحد أن هذا الاختفاء كان نهائيا، كانوا جميعا يدركون أن الخليفة الضائع سيعود بطريقة أو بأخرى وسيعود معه مجد الأندلس، وحدث هذا بالفعل.
بدأت أسطورة السطوع الثانى للخليفة هشام المؤيد فى مدينة أخرى هى أشبيلية، لم تكن تبعد كثيرا عن قرطبة، ولم يكن لها حاكم محدد، فبعد أن ثارت المدينة على آخر حكامها الطغاة لم تشأ أن تكرر التجربة، تحولت إلى ما يشبه النظام الجمهورى الذى لم يكن معروفا وقتها، كان يحكمها مجلس يضم خمسة من قضاة المدينة، ينظمون أمور التجارة والحماية، ولكن هذا الأمر لم يستمر طويلا، فقد كان هناك من بين هؤلاء القضاة من هو أكثر ذكاء وطموحا من البقية، كان قد شاهد بالمصادفة أحد صناع الحصر يدعى «خضر» فى مسجد المدينة ولاحظ الشبه الشديد بينه وبين الخليفة المختفى، وخطرت له فكرة مجنونة، أن يصعد بالحصرى إلى العرش ويزيح القضاة الأربعين الآخرين وتكون له وحده السيطرة عليه وعلى العرش، وهكذا أخذ الحصرى المسكين وألبسه ثياب الخليفة المختفى، وأحضر شهودا من قرطبة ليتعرفوا عليه ويثبتوا أنه الخليفة المؤيد، كان القاضى جريئا ومجازفا، أحضر خدم قصر قرطبة، وقاضيها وقائد جيشها، أحضر حتى زوجة الخليفة السابق. المفاجأة أن كلهم أكدوا أن هذا الحصرى ما هو إلا هشام المؤيد، حتى الزوجة التى كانت شهادتها الأكثر صدقا وإقناعا، تخلقت الأسطورة من جديد، وانتشرت الأنباء بطول الأندلس وعرضها تعلن أن خليفة من نسل بنى أمية قد عاد من جديد، وقبل أن يجهز جيوشه أو يسيرها أخذت المدن والقرى تعلن عن دخولها تعلن الطاعة والولاء له، حتى قرطبة مدينة هشام المؤيد الحقيقى لم تستطع أن تقاوم هذا المد الجارف ودخلت إلى حظيرته.
الأكاذيب دائما ما تكون أكثر سطوة من الحقائق، خصوصا عندما يحتاج الناس إليها، فبعد فترة من الزمن لم يعد «خضر» ذلك الرجل الضعيف الذى كان يجدل الحصر، ولكنه أصبح سلطانا قويا، يجيد لعبة السياسة، ولا تكف المدن على الدخول فى طاعته، كأنه يعيد فتح الأندلس من جديد، دون حاجة إلى جيش يعبر البحار، وأحس القاضى الذى دبر كل هذه اللعبة أن الحصرى يتعالى عليه، ولا يأخذ بنصائحه، ويبعده تدريجيا عن مركز السلطة، وحاول القاضى أن يقاوم، يذكر الحصرى القديم بأنه صاحب الفضل عليه، الوحيد الذى يحفظ سره، وعليه أن يشاركه فى حصد الغنائم وإلا فضح هذا السر، وابتسم الخليفة فى تودد، لم يكن القاضى الغبى يدرك أن قوته قد أصبحت مطلقة وأسطورته طاغية، لا تخدشها أكاذيب صغيرة من قاض موتور، أشار إلى الحرس فاقتادوا القاضى الغبى على الفور، أمرهم أن يشنقوه ويعلقوه على باب أشبيلية، المدينة التى شهدت سطوعه ومجده، انتصرت أسطورة «الدوبلير» حتى ولو كان ذلك إلى حين.