من رواية «زمكان» التى عكفتُ على كتابتها على مدار أشهر طويلة رأيتُ أن أقتطع منها بعض سطور حاولت فيها أن أصحح مفاهيم سادت وانتشرت بين أبناء الحركة التى أطلقت على نفسها «إسلامية» حتى ظن البعض أنها دين، وما هى دين، بل هى محض آراء لأصحابها، والسطور التى اقتطعتها تدور حول مناظرة حادة بين إمام فريد لا يتكرر، ومجموعة رموز الحركة الإسلامية، وعندما احتدت المناظرة واشتدت قال الإمام العالم لمن يناظرونه أمام جمع من الجمهور:
(اعلموا أيها الناس أن خَلـْق الله ثلاثة، هم، أهل الإيمان، وأهل الجهل، وأهل الكفر، أما أهل الإيمان فهم من عرفوا الحق فاتبعوه، وأهل الجهل هم من لم يعرفوا الحق فلم يتبعوه، وأهل الكفر هم من عرفوا الحق فجحدوه وأنكروه، ألم تُعَرِّف لنا الكفر يا شيخ حسانين فقلت إنه ستر وتغطية، صدقت فى تعريفك، فالكافر حاجب وساتر للحق، أما الجاهل فهو مستور عنه ومحجوب عنه الحق، وهذا غير ذاك، لذلك يقول الحق سبحانه (إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين فى نار جهنم خالدين فيها) فى هذه الآية وفى غيرها يتحدث الله ليس عن أهل الكتاب جملة، وليس عن المشركين جملة، ولكن يحدثنا عن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين، أى عن أولئك الذين عرفوا الحق، فكفروه أى حجبوه وستروه، أما غيرهم من أهل الكتاب والمشركين ممن لم يعرفوا الحق، ولم تهدهم عقولهم إليه فهم مكفور عنهم وليسوا كافرين، والكفر الأصغر الذى لا يخرج من الملة كلكم يصيبه، تعرف أن حجة من يناظرك هى الأصح فتكفرها أى تحجبها عن الناس كبرا أو بطرا أو غرورا، فأنت بجحدك تكون قد دخلت إلى الكفر الأصغر، فكل مسلم عرف أمرا من أمور الحق فحجبه بطرا أو عنادا فهو كافر أصغر، أما إذا حُجب عن عقله أمر من أمور الحق فهو مكفور عنه لا كافر أصغر.
ارتفعت همهمات الجمهور اعتراضا على كلام الإمام، إذ لم تألف عقولهم هذا المنطق، ولكن الشيخ حسانين أسكتهم قائلا: اسكتوا، أطلق الله ألسنتكم فى الحق، فنحن نريد أن يستكمل كلامه حتى نقيم عليه الحجة، ثم استطرد: أكمل أيها الغريب.
كان قلب الشيخ برهومة حجازى قد امتلأ حقدا وغلا وهو يرى الإمام يطلق حججه فى وجوه العلماء ويتدفق بعلمه فأراد أن يفسد عليه، فتحرك من مكانه، وجاء من خلفه وأمسك ظهر المقعد الذى يجلس عليه ودفعه للخلف فوقع الإمام وصوت وقعته يدوى فى المكان.
عاد الهرج والمرج إذ جذب برهومة الإمام من ملابسه يريد طرده من المسجد، ومصطفى وغريب يحولان بين الإمام وزبانية العلماء، أدار الشيخ حسانين حوارا هامسا مع شيوخ المنصة، فلو طردوه الآن لقال الناس إنهم فشلوا فى الرد عليه فأهانوه وطردوه: «ولكن يجب أن نكشفه ونكشف تهافته ثم نطرده» فتدخل شيوخ المنصة سريعا وعنفوا الشيخ برهومة حجازى وأعادوا الإمام إلى مكانه وطيبوا خاطره وهم يبتسمون ابتسامة التشفى، ثم عاد الشيخ حسانين يسأل الإمام بعد أن هدأ الجمهور: حدثنا عن والد الرسول هل ترى أنه فى النار أم أنه من أهل الفترة فتجحد بذلك حديث رسول الله الصحيح.
الإمام: من قال إن عبدالله بن عبدالمطلب، والد الرسول، فى النار فقد أخطأ وإنما حديث رسول الله عن عمه «أبوطالب» فالعم أب، كما كان آزر عم إبراهيم أبا له، وأبوطالب كفر لأنه عرف الحق ولم يتبعه خوفا من أن تعيره العرب، وهذا كِبر، أما والد الرسول فهو من أهل الفترة إذ قال الله سبحانه فى سورة الإسراء «وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا» وقال فى سورة المائدة «قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل» والرسول ليس هو صاحب الرسالة فقط، ولكن الرسول أيضا هو الدليل، فكل نبى أرسله الله كان يأتى قومه بآية أو علامة، فيعرفون أنه مرسل من قبل الله، فكانت لإبراهيم آياته، ولموسى آياته، ولعيسى آياته، ولمحمد آياته، هذه الآيات لأقوامهم، فإذا رأوها عرفوا أنها فوق إمكانية البشر، آمنوا بهم، ولكن كان هناك من أقوامهم من يرى الآيات فيجحدونها ويقولون «إنما سكرت أبصارنا» فهؤلاء هم كفار «الشهود والمعاينة» ومن هؤلاء من قال فيهم الله سبحانه فى سورة النمل «فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين * وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا» هنا يا أيها الشيخ، ويا عامة المسلمين وخاصتهم، جاءت آية الله مبصرة، واضحة، جلية، ولكنهم قالوا للناس حتى يفتنوهم «هذا سحر مبين» رغم أن أنفسهم استيقنت الحق.
وهنا أثار الشيخ حسانين الجمهور على الإمام فحدث ما لا يحمد عقباه.