«1»
امرأة قبطية سمراء تلزمها قواعد دينها بأن تقضى أكثر من نصف السنة صائمة وتحصر علاقتها بالطعام خلال هذه المدة فى اختيارات محدودة للغاية، لا تعرف المسبك والمحمر والطواجن إلى آخره، أغلب الظن أن هذا التقشّف كان هو مفتاح الإبداع، فتلك المرأة هى التى علّمت مصر بعد ذلك بمسلميها وأقباطها ولسنوات طويلة كيف يبدعون فى ساحات المطابخ.
«2»
عندما سافرت أبلة نظيرة نيقولا إلى لندن فى بعثة تابعة لمعهد معلمات الفنون لدراسة فنون الطهى وشغل الإبرة، لم تقض سنوات البعثة الثلاث فى إتقان أصناف طعام جديدة، خصوصًا أن الفارق بين مطبخنا والمطبخ الغربى شاسع، لكنها تشرّبت فلسفة ما ساعدتها فى تقديم معالجة جديدة لتراث الطهى الذى تتناقله الأمهات جيلًا بعد جيل، ما يؤكد كلامى هذا أنها عقب عودتها مع بداية الثلاثينيات اختارت أن تعمل فى مدرسة السنية الثانوية كمعلمة لمادة أسمتها «الثقافة النسوية»، كان واضحًا أنها تحلم بوضع لمسة من الثقافة والنظام على فطرة المصريات، بالذات الجيل الجديد منهن.
فى ما بعد أصبحت الثقافة النسوية مادة رئيسية معترفًا بها اسمها «التدبير المنزلى».
أعلنت وزارة المعارف عن مسابقة لتأليف كتاب فى الطهى تعتمده الوزارة كمنهج دراسى للفتيات، قبلها كانت نظيرة نيقولا قد صادقت «أبلة بهية عثمان» العائدة من بعثة مماثلة فى إنجلترا، فاتفقتا على تأليف الكتاب سويًّا، فكان كتاب «أصول الطهى» فى أكثر من 800 صفحة، وكان أن أهدت المولفتان الكتاب إلى ملكة مصر صاحبة الجلالة الملكة فريدة، وقالتا فى مقدمة الكتاب إن سببين وراء العمل عليه، الأول عدم وجود مراجع عربية فى هذا المجال، والثانى هو اتجاه الرأى العام لتنشئة الفتاة على فهم الحياة المنزلية، فكان لا بد من دعم ذلك بالعلم والأصول الصحيحة.
«3»
لم يتدخّل كتاب أبلة نظيرة وأبلة بهية فى «نفس الطبخ» الذى يميّز كل أنثى عن الأخرى، ويعبر عن شخصيتها، اهتم أولًا بأرشفة كل الأكلات الممكنة فى تاريخ مصر بطريقة بسيطة، ثم اهتم بكل ما هو وراء الطعام.
المطبخ الكبير زيادة عن اللزوم تعمّه الفوضى سريعًا، لا بد أن يكون مطبخ البيت فى جهة بحرية حتى يكون متجدّد الهواء، فى كل طعام مطبوخ لا بد أن تكون نكهة المادة الأساسية ظاهرة، مهما كانت إمكانياتك لا بد أن تكون ألوان الطعام على المائدة متباينة، متعة العين جزء من متعة الطعام، أهم شرط من شروط نجاح الصلصة أن يكون لونها مطابقًا تمامًا للون المادة الأساسية فيها، مهارة ربة البيت لا تتجلى فقط فى الطهى، ولكن تتجلى أكثر فى مهارات إعادة طهى ما تبقى من بواقى طهى سابق، أدوات المرأة الأساسية إناء ونار، تخلّى عن التعقيد فى أدوات الطبخ وإن كان ثمة شىء أهم من الإناء والنار فى المطبخ فهو ساعة الحائط.
«4»
لماذا حصدت أبلة نظيرة الشهرة كلها وطغى اسمها على اسم أبلة بهية عثمان شريكتها فى هذا المجد؟
لا أحد يعلم، لكن لدىّ تفسير أن أبلة نظيرة رسّخت وجودها كصنايعية طهى بنشاط تجاوز الكتاب، ففى أحد الأيام اتصلت بها الإذاعية الكبيرة صفية المهندس صاحبة أشهر برنامج عائلى فى تاريخ مصر كلها «إلى ربات البيوت»، وطلبت منها أن تشارك بتقديم فقرة فى البرنامج، كانت أبلة نظيرة تقترب من سن المعاش وأعجبتها الفكرة، وظلت لسنوات طويلة تقدم فقرة يومية صباحية تساعد من خلالها ربة كل بيت مصرى على اختيار طعام غذاء أسرتها لهذا اليوم، ثم فتحت لها مجلة «حواء» أشهر المجلات النسائية وقتها الباب لاستكمال رسالتها المكتوبة، والتى تفرع عنها العديد من الكتب التى تحمل اسم أبلة نظيرة منفردًا.
أكتب عنها اليوم وأفكّر فى أن كل شاب مصرى رزقه الله بأم تجيد الطبخ يعيش مأساة ما بعد زواجه، رغمًا عنه يظل طول عمر زيجته يقارن بين الطعام كما عرفه فى حياته الأولى وبين ما يقابله الآن، ويتناسب حجم المأساة طرديًّا مع حجم الفارق.
فما بالك لو كانت والدة هذا الشاب هى أبلة نظيرة؟
يقول ابنها فى حوار منشور على الإنترنت، إنها ظلّت تعمل بدأب حتى سن الـ90، ثم رحلت عام 92، ويقول إنها رغم كل ما حصدته من تكريم كانت لديها غصة من سخرية ممثل كوميدى منها فى أحد المسرحيات واصفًا إحدى صفحات كتابها بأنها صفحة الوفيات.