تبدو البلاد الآن بكل مواطنيها وقواها السياسية فى حالة ترقب شديد لتطورات المشهد السياسى الذى تلوح ملامحه وتتشكل فى الأفق القريب، وتتراوح توقعاتها بين التفاؤل الذى يتأرجح بين الحذر والإفراط من جانب، والتحفز المشحون بالعدائية مأخوذا بالعزة فى الإثم ومتسما بالتخبط السياسى على الجانب الآخر.
وغنى عن الذكر أن المؤمنين بالتفاؤل والإيجابية ينطلقون فى توجههم هذا مما تحقق من إنجاز غير مسبوق تمثل فى الزخم الشعبى الذى ملأ الشوارع المصرية اعتراضا على نظام فاشل مستبد أخفق فى إدارة دولة عريقة مثل مصر ونجاحهم فى إسقاط هذا النظام ورئيسه سلميا. أما الفريق المقابل فيدافع عما يعتقد أنه، صدقا أم كذبا، حقُّه المشروع فى إعادة رئيس منتخب إلى سدة الحكم وحماية مشروع دينى فى الحكم من السقوط فى غياهب التاريخ إلى الأبد، وهو فى ذلك على استعداد -كما يعلن متحدثوه- إلى أخذ الأمور إلى منتهاها سِلْمًا أو عنفا لتحقيق هذا الهدف الذى فى نظرهم دونه خرط القتاد كما يقال، إذن خلاصة القول أن الفريق الأول يؤمن أن النظام السابق قد انتهى إلى غير رجعة وخريطة الطريق قد بدأ تنفيذها نحو مستقبل أكثر ديمقراطية واستيعابا وانفتاحا على جميع الأطراف المصرية، بينما يظن الفريق الآخر أن عجلة التاريخ يمكن إعادتها إلى الوراء وأن بقاءه واستمراره ومستقبله برمته ومشاركته فى أية عملية سياسية هو مرهون بالمطلق بإعادة رئيسه وجماعته إلى القصر الرئاسى وإلا فالثبور وعواظم الأمور أيا كانت التكلفة الوطنية والثمن الذى سيتحمله، كرها وقهرا نتيجة لمسعاهم، النسيج الاجتماعى المتماسك عبر التاريخ لهذا الوطن!
ثم ماذا بعد؟ إلى أين تذهب مصر فى ضوء ما سبق؟ نلاحظ جميعا أن سماوات القاهرة العتيدة تعج بدعوات ومقولات ومبادرات لا حصر لها بغرض تحقيق ما يطلق عليه «المصالحة الوطنية» واستعادة اللحمة المجتمعية وعدم الإقصاء واستيعاب كل الأطراف المتناحرة «سياسيا» على الساحة المصرية، وهنا تثور التساؤلات التى يجب حسمها دون مواربة أو محاباة أو نفاق ممجوج لمصالح ذاتية أو حزبية أو دعائية، أقول تثور التساؤلات وتزداد الهواجس عما يقصده الجميع بالمصالحة الوطنية؟ وما معاييرها وشروطها ومنطلقاتها وأطرافها وقواعدها وموضوعاتها المطروحة على مائدة التفاوض أو النقاش؟ كما أن الأمر يستلزم بداهة الاتفاق مسبقا على حدود الخطوط الحمراء التى لن تخضع للتفاوض والتنازلات أيا كانت وأولها وأهمها أن لا تفاوض ولا تنازل عن المحاسبة القانونية لكل من تلطخت أيديهم بالدماء المصرية الزكية خلال حكم محمد مرسى وجماعة الإخوان فى أى بقعة من أرض المحروسة اعتبارا من حادثة رفح وحتى الآن. كما يجب إعمال حكم القانون الذى يتحتم أن يطبق على الكل دون استثناء لأى فصيل أو طرف بشأن التحريض على القتل والترويع وتهديد حياة المواطنين الآمنين، وهل تثمر المصالحة دون الإقرار العلنى من جانب من يحشد فى رابعة العدوية بأن صفحة الرئيس المقال قد انطوت بالفعل، هل تنجح هذه المصالحة دون أن يعلن المزايدون بالدين والداعون إلى نصرته باستخدام القهر والعنف ضد إخوانهم المصريين أن هذا صراع «سياسى» بامتياز لا يتعلق بالإيمان والكفر والعياذ بالله، وهل تبدأ هذه المصالحة بخطى ثابتة دون الإقرار بالذنب تجاه الحشود فى رابعة العدوية التى يتم دعوتها «بدم بارد» من قبل قادتها المغرضين إلى الاستشهاد من أجل نصرة نظام فاشل بلا مواربة واستعادة رئيس وجماعة وحكومة أخفقوا جميعا بلا مكابرة فى تحقيق أية إنجاز لتحسين حياة المصريين الذين يكافحون يوميا فى ظل أصعب الظروف من أجل الحصول على لقمة العيش سعيا وراء الحياة الكريمة، وإذا لم يتم الاعتراف بذلك علنا ونزع فتيل الاحتقان الذى يتعرض له هذا الوطن، فعلى أى أساس سيتم التفاوض ومن أية نقطة ستبدأ المصالحة التى من المحتم أن تستهل مناقشاتها بالمكاشفة والمصارحة والشفافية والاعتذار الحقيقى عن خطايا الماضى فى حق المصريين كافة؟
أنا أزعم سيداتى وسادتى أن المصريين الذين نزلوا بملايين الملايين إلى الشوارع والميادين فى 30 يونيو هم مواطنون صالحون يرغبون حقا وصدقا فى الحياة الآمنة جنبا إلى جنب مع جميع أبناء جلدتهم دون استعلاء أو إقصاء أو احتكار فجميعنا مصريون متساوون محبون لوطنهم، ولكن السؤال الحاكم هنا يصبح كما يلى: هذه هى رؤيتنا نطرحها بمنطلقاتها وبخطوطها الحمراء، فماذا أنتم فاعلون؟ وماذا أنتم على استعداد لقبوله والاعتراف به لتعودوا جزءا من هذا المجتمع المتسامح؟ وهل تدركون حقا وصدقا أن مشكلتكم الحقيقية اليوم ليست فى المقام الأول مع القوى السياسية بكل أطيافها، رغم خلافاتكم الجوهرية معها، ولكنها مع الشعب المصرى المسالم الذى فقد الثقة بكم؟ هذا هو واقع الأمر اليوم فى مصر المحروسة فأتوا ببرهانكم إن كنتم صادقين!