لهذا المقال قصة، وهى قصة مؤسفة لكنها ذات دلالات مهمة توضح موقف الإعلام الأمريكى من ثورة 30 يونيو، وإصرارها على وصمها بالانقلاب العسكرى، وذلك عن طريق حجب وجهة النظر المدافعة عن الثورة.
وتبدأ القصة باتصال من أونورجونز مسؤولة صفحة الرأى فى جريدة «نيويورك تايمز»، تطلب منى فيه كتابة مقال للجريدة حول الأحداث الأخيرة، وأوضحت المسؤولة أنها تفضل أن يتضمن المقال لقطات إنسانية، حيث إن ما نشرته الجريدة حتى الآن يميل إلى التحليل السياسى الجاف.
وقد ترددت فى الاستجابة لهذا الطلب لمتابعتى الخط الذى ينتهجه الإعلام الأمريكى حتى الآن إزاء الثورة الشعبية التى شهدتها مصر يوم 30 يونيو والتى لم يكن من الممكن تجاهلها باعتبارها أكبر حركة احتجاج سياسى عرفتها الإنسانية كما وصفها المراقبون السياسيون، لكنى قررت قبول العرض عسى أن يتم فتح ثغرة ولو بسيطة فى جدار الرفض الكامل لثورة 30 يونيو والإصرار على اعتبارها انقلاباً عسكرياً ينبغى مقاومته، والعاملون بالصحافة والإعلام يعرفون جيداً أن الانحياز فى السياسة التحريرية لأى جريدة لا يكون دائماً بحظر وجهة النظر الأخرى تماماً، وإنما قد يكون بالتعبير عن وجهة النظر الأخرى فى إطار ضيق لا يسمح لها بالتأثير المطلوب لكنه يسمح للجريدة أن تشير إليها باعتبارها دليلاً على قبولها كل الآراء، وهكذا من بين عشرة مقالات تؤكدة وجهة النظر التى تتبناها الجريدة قد تجد مقالة واحدة تعبر عن وجهة النظر الأخرى، وقلت لنفسى إن إلحاح الجريدة على بالكتابة قد تجعل مما أكتبه هو هذه المقالة الواحدة بين عشرة مقالات، والتى قد لا يكون لها تأثير فى تغيير وجهة النظر السائدة لكنها على الأقل تسجل للتاريخ وجهة النظر الأخرى.
وأرسلت إلى مسؤولة صفحة الرأى بجريدة «نيويورك تايمز» أننى يسعدنى أن أكتب المقال المطلوب بالمواصفات الإنسانية التى حددتها لى، فأرسلت تبدى سعادة الجريدة بأننى قبلت هذا العرض، وتمنت على أن أرسل المقال خلال 24 ساعة إن أمكن، حتى لو كتبته بالعربية قائلة إنهم على استعداد لترجمته إلى اللغة الإنجليزية.
وقد اخترت أن أعبر عن وجهة النظر الغائبة - أو المغيبة - عن الإعلام الأمريكى من خلال قصة الشهيد عمرو عبدالحميد، عضو حركة «تمرد»، الذى عرفته قبل أن يستشهد بأيام، والذى لم يأخذ حقه فى التغطية الصحفية، ولا حتى فى مصر، وكتبت المقال بالإنجليزية مباشرة حتى أضمن ألا يضيع منه شىء فى الترجمة أو يتم تحويره بقصد أو بدون قصد.
وبعد 24 ساعة أرسلت المقال المطلوب وفى حدود المساحة المطلوبة، ومضت 24 ساعة أخرى لم يصلنى شىء من الجريدة رغم العجلة التى أظهروها فى طلب المقال.
ثم وصلتنى أول أمس على بريدى الإلكترونى الرسالة التالية من مسؤولة الصفحة: «لقد عرضت مقالك على رئيسى وعلى آخرين وإنى لآسفة جداً أننا لن نستطيع استخدام المقال، إن موضوعه حزين ومؤثر، لكن المقال يسرد الأحداث من وجهة نظر محددة ولا يقدم رأياً (متوازناً) أقدم لك أسفى أننا أخذنا الكثير من وقتك وأتمنى أن يجد المقال مكاناً جيداً للنشر، كما أتمنى أن تفكر فى اختبارنا مرة أخرى فى المستقبل.
والحقيقة أننى لا أستطيع أن أقول إننى قد فوجئت بموقف الجريدة، فقد قبلت من البداية المحاولة وأنا أعلم أن الرفض وارد رغم أننى لم أكن الساعى إلى الجريدة، بل هى التى سعت إلى، لكن ما فوجئت به حقاً كان اعتراف الجريدة بأن سبب الرفض هو انحياز المقال لوجهة نظر «محددة» كما قالت مسؤولة صفحة الرأى بعد العودة إلى رئيسها، وهو ما أعترف به، بل أؤكد أنه كان دافعى الأوحد لكتابة المقال، وهو إيصال وجهة النظر الأخرى إلى القارئ الأمريكى الذى لم يتعرف حتى الآن إلا على وجهة النظر النقيضة، ورغم أن المسؤولة كانت صادقة فى إعلانها سبب رفض المقال، فالحقيقة أن نفس هذا الوصف ينطبق بدرجات متفاوتة على ما تم نشره فى الجريدة من مقالات حتى الآن، فقد كانت كلها تعبر عن وجهة نظر محددة تعتبر ما حدث انقلاباً عسكرياً ضد النظام الشرعى فى مصر، وأذكر منها مقالاً أعتقد أن الإخوان أنفسهم كانوا سيخجلون من نشره بهذا التحيز الذى يطفح منه، وقد حمل عنوان «مخاطر الانقلاب الشعبى» وكتبه أستاذ قانون بجامعة كاليفورنيا اسمه خالد أبوالفضل، اتهم فيه الجيش المصرى بأنه «يتبع خطوات جمال عبدالناصر وحافظ الأسد وصدام حسين وآية الله خمينى الذين يمثلون جميعاً حكماً سلطوياً يتعللون فيه بأنهم يتمتعون بتأييد الجماهير.. إن الجيش المصرى اتبع بذلك تقليداً سائداً فى الشرق الأوسط، حيث الجيش هو الذى يحدد وحده ما تحتاجه البلاد».
ورغم ما يبدو أنه بوادر تغير فى الموقف الرسمى الأمريكى، فإن موقف الإعلام الأمريكى مازال معادياً تماماً لثورة الشعب المصرى يوم 30 يونيو الماضى، بل يحرص على عدم وصول وجهة النظر الأخرى إلى الرأى العام الأمريكى، كما يتضح من الملابسات التى أحاطت بهذا المقال، والذى أنشر هنا نصه الكامل.
محمد سلماوى يكتب: حلم عمرو الذى تحقق!
كنا فى مقر حملة «تمرد» بوسط البلد حين قابلت عمرو عبدالحميد لأول مرة، كان جالسا فى قاعة الفرز يقوم بحصر الاستمارات التى وردت إليه من مندوبى الحملة كان فى أوائل الأربعينيات تعلو وجهه المبتسم سمرة صعيد مصر وقد ترك لحيته دون تهذيب لاختصار وقت الحلاقة اليومية، حيث كان فى صراع مع الزمن لتخطى عدد الأصوات التى حصل عليها محمد مرسى فى انتخابات الرئاسة قبل حلول يوم 30 يونيو.
سلمت «عمرو» الاستمارات التى أحضرتها معى والتى كان قد وقعها عدد من الأدباء والمثقفين وسألته كيف يضمنون فى الحملة عدم تكرار التوقيعات؟ فشرح لى أنهم يقومون بإدخال الاسم والرقم القومى إلى الكمبيوتر وإذا تكرر الرقم القومى فإن الجهاز يرفض على الفور.
أجاب على قدر السؤال وعاد بسرعة إلى مهمته التى استحوذت على اهتمامه كله لمدة أسابيع متتالية. كانت حملة «تمرد» قد دعتنى لزيارة مقرها بشارع التحرير، ومقابلة فريق الشباب العامل بها، وقد أمضيت معهم قرابة الساعة نتحدث فى أحوال البلاد والتوقعات المنتظرة يوم 30 يونيو، واكتشفت أن الكثيرين منهم كانوا قد شاركوا فى ثورة يناير 2011 التى طالبت بالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، لكنهم مثل بقية الشعب وجدوا بعد سنتين ونصف أن أياً من أهداف الثورة لم يتحقق، وأن الرئيس المنتخب خرق تعاقداته الانتخابية مع الناخبين الواحد تلو الآخر، فلم يكن قد قضى عليه فى الحكم إلا بضعة أسابيع حتى أصدر فى نوفمبر 2012 إعلاناً دستورياً يعطيه حصانة قضائية ويحظر على القضاء مراجعة قراراته، فى الوقت الذى قام فيه أتباعه بمحاصرة المحاكم ومنع القضاة من مباشرة العدالة، ولم يقتصر عداء حكم الإخوان للقضاة وحدهم وإنما امتد إلى الإعلاميين والمثقفين وكل دوائر المعارضة.
واندلعت المظاهرات من جديد وكأن النظام القديم لم يسقط بثورة 25 يناير، واستشهد عدد كبير من الشباب من زملاء عمرو عبدالحميد وأعضاء الحملة برصاص القناصة الذين عرفوهم فى أحداث يناير وفبراير 2011، وبدأوا يكتشفون أن هناك ذراعاً مسلحة لجماعة الإخوان تسمى الفرقة 95 عادت تتصيد أعين الشباب المتظاهرين وأدمغتهم، كما فعلت فى ثورة 2011.
وبدأ من انتخبوا محمد مرسى يدركون أن جماعة الإخوان تفتقر تماماً لأى دراية بأصول الحكم وإدارة الدولة، وأن اهتمامهم انصب فقط على تمكين أعضائها من المواقع الحساسة فى أجهزة الدولة بما يضمن تحكم الإخوان فى أى عملية انتخابية قادمة.
وهكذا انهار الاقتصاد أكثر مما كان منهاراً وتراجعت معدلات السياحة، وقبل عزل مرسى بأسابيع معدودة تم تعيين أحد أعضاء الجماعة الإرهابية التى ارتكبت مذبحة السواح فى الأقصر عام 1997 محافظاً لذات المدينة التى ارتكبت فيها المذبحة.
وخلال العام الذى استغرقه حكم الإخوان لمصر شاهد عمرو وزملاؤه زيادة الاعتداءات على المسيحيين وعلى النساء وعلى الإعلاميين وتم تعيين وزير إخوانى للثقافة كان أول ما فعله هو فصل رؤساء الأجهزة الثقافية مثل الهيئة العامة للكتاب ودار الأوبرا، وشاهدنا هجوما شرساً على رموز الثقافة من الكتاب والفنانيين ووصمت روائع كاتبنا الأكبر نجيب محفوظ بأنها أدب «الدعارة والمواخير»، ووصف فن الباليه بأنه «فحش» (!!).
وانتشرت رسالة الكراهية التى بثها الإخوان وحلفاؤهم من السلفيين والجهاديين والتكفيريين وخلال مؤتمر سياسى عقده مرسى لأتباعه قبل سقوطه بأسابيع فى استاد القاهرة طالب الشيوخ الملتحون فى وجود رئيس الجمهورية ودون مراجعة منه، بالتخلص من «الكفرة والأنجاس» من الشيعة، وما هى إلا أيام حتى شهدت مصر واحدة من أبشع مآسيها الدامية، حيث تم التهجم على بعض الشيعة فى منازلهم وتم سحلهم فى شوارع أبوالنمرس بالجيزة وضرب أربعة منهم حتى الموت أمام الجميع ووسط تهليلات «الله أكبر!».
وازدادت المعارضة لحكم محمد مرسى بدرجة لم تعرفها البلاد من قبل ووصل عدد التظاهرات الاحتجاجية خلال العام الماضى إلى 3817 احتجاجاً أى بمعدل أكثر من عشرة احتجاجات فى اليوم الواحد.
ورفض عمرو ورفاقه الذين خرجوا إلى ميدان التحرير قبل سنتين ونصف ضد حكم الرئيس حسنى مبارك المستبد أن يقبلوا بمستبد آخر فى الحكم، وتوصل ثلاثة من الشباب إلى فكرة مبتكرة، حيث قرر محمود بدر «28 عاماً» ومحمد عبدالعزيز «34 عاماً» وحسن شاهين «22 عاماً» أنهم كما خرجوا إلى الناس فى يناير 2011، يطالبون برحيل مبارك فسيخرجون إليهم مرة أخرى ليجمعوا توقيعاتهم على استمارة تطالب برحيل مرسى هو الآخر، ومثلما صوت الناس لمرسى فسيصوتون الآن ضده، وهو ما يعرف فى القانون الأمريكى باسم مراجعة التصويت recall referendum أو سحب الثقة، وقد سجلت فى الولايات المتحدة 150 حالة سحب ثقة على مختلف المستويات فى نفس عام قيام الثورة فى مصر وهو عام 2011.
وانتشرت الحملة فى جميع أنحاء البلاد بدرجة أذهلت القائمين عليها قبل غيرهم، وحين قمت بزيارة مقر «تمرد» فى منتصف شهر يونيو أسَرَّ إلىّ العاملون فى غرفة «الكنترول» أو المراقبة، أنهم تخطوا بالفعل عدد الأصوات التى حصل عليها محمد مرسى فى انتخابات الرئاسة والتى لم تتعد حوالى 12.5 مليون صوت.
وقد تحدثت طويلاً مع شباب الحملة لكن عمرو كان أكثرهم صمتا، كانت مهمته هى الفرز أما الكلام فتركه لزملائه، حيث روى لى محمد نبوى (30 عاماً) كيف سافر خارج مصر بإمكانيات متواضعة ليجمع أصوات المصريين فى الخارج، وكيف اضطر للمبيت فى بعض الأحيان فى الحدائق العامة، وكيف فقدت منه فى مطار القاهرة إحدى الحقائب التى كانت تضم المئات من الاستمارات، أو صودرت منه دون أن يعلم، وحدثتنى كل من مها أبوبكر «34 عاماً» وريهام المصرى «23 عاماً» عن دهشة جميع أعضاء الحملة من أعداد الاستمارات التى كانت الناس تقوم بتصويرها بنفسها وتوقع عليها، كنت قد سلمتهم 140 استمارة، لكن البعض سلمهم الآلاف من الاستمارات التى لا تستطيع الحملة أن تدعى أنها هى التى جمعتها.
وبعد زيارتى لمقر «تمرد» بأيام أعلنت الحملة أنها جمعت بجهودها وجهود المواطنين أكثر من 22 مليون استمارة تطالب مرسى بالرحيل، وتلك كانت بداية الأزمة، فبدلاً من أن يستجيب الرئيس لإرادة الجماهير قرر أن يتجاهلها فى حركة ازدراء غير مقبولة للجماهير التى انتخبته فقد انتظر الإخوان لحظة الوثوب على الحكم لأكثر من 80 عاماً ولم يكن من السهل الآن، أن يتركوها تمضى لمجرد أن الإرادة الشعبية قد «تمردت» على حكمهم، أو لأن الشعب مارس حقه الطبيعى فى اختيار من يحكم وقام بسحب الثقة ممن سبق أن منحها له.
وفى يوم الأحد 30 يونيو خرجت عشرات الملايين من المصريين إلى كل شوارع وميادين البلاد فى أكبر تظاهرة احتجاجية عرفها التاريخ الإنسانى، والتى قدرت أعدادها بـ33 مليوناً.
ومع رفض مرسى الخضوع لرغبة الجماهير ازدادت الجماهير إصراراً على رحيله، وأصبحت البلاد على حافة حالة من الفوضى العارمة التى كان يمكن أن تضر بالأمن القومى للبلاد، فتدخل الجيش حامى الأمن القومى ووضع مهلة 48 ساعة للتوصل إلى تسوية للأزمة، وحين لم يعر الرئيس تلك المهلة اهتماماً نفذ الجيش وعده ملبياً مطلب الملايين التى خرجت إلى الشوارع والميادين فتم عزل محمد مرسى وتم تسليم الحكم لدولة القانون ممثلة فى رئيس المحكمة الدستورية العليا بشكل مؤقت إلى حين إجراء الانتخابات الرئاسية المبكرة التى طالب بها الشعب خلال تسعة أشهر.
وعمت مصر الفرحة وأخذ الناس يهنئون بعضهم البعض على رحيل حكم الإخوان الذى استبد بالبلاد سنة كاملة، وملأت سماء القاهرة الألعاب النارية بكل ألوان الطيف، وخرج عمرو مع أصدقائه يحتفلون مع بقية الشعب، لكن قوى الظلام كانت متربصة بهم، ففى منطقة بين السرايات بالقرب من جامعة القاهرة عادت القناصة مرة أخرى يمارسون مهمتهم الخفية، فأصابوا الشهيد عمرو عبدالحميد فى رأسه من الأمام محدثة انفجاراً فى المخ أودى بحياته على الفور، وسقط شهيداً، ونقصت توقيعات «تمرد» توقيعاً نبيلاً، لكن الحلم الذى كان يحاول عمرو تحقيقه لأولاده الثلاثة كان قد تحقق.. فقد ترك لهم مصر وقد تحررت من حكم الاستبداد.