أبو القاسم علِىّ بن الحسن بن عساكر الدمشقى، العلّامة، محدِّث الشام ومؤلف الكتاب الشهير «تاريخ دمشق»، الذى صار علامة فى طريقة تأليف تاريخ المدن.. كل هذا جميل ومشرِّف.. ولكن ما حكاية ابن عساكر هذا معنا؟
الحكاية أن ابن عساكر هو الذى قال «لحوم العلماء مسمومة».. هذه الجملة التى قلما أن يخلو منها حديث بين طرفين، أحدهما «إسلامى» التوجه.. تبدأ المناقشة سهلة ممتعة، يدافع كل منهما عن حجته وعن أفكاره وقراءاته، يحتدم النقاش، يذكر الطرف الثانى أمثلة من سقطات شيوخ ورموز الطرف الأول، فلا يجد الطرف الأول سبيلا للرد -وخصوصا إذا كانت السقطات واضحة جلية- سوى أن يقذف هذه العبارة فى وجه صاحبه: احذر.. لحوم العلماء مسمومة.
ولهذا فبالرغم من أن الحكمة ملك للجميع، فإنه فى هذه الحالات ينبغى أن نعود قليلا لنعرف السبب من قول هذه الجملة أو الحكمة لنضعها فى موضعها الصحيح، فابن عساكر كتب هذه الجملة فى كتابه «تبيين كذب المفترى» وذلك لخلافاته المتكررة والصارمة بين مذهبه «الأشاعرة» وبين مذهب مخالفيه «الحنابلة»، الذين عادوه أشد العداء ووقفوا له ولأفكاره موقف الخصم، وذكروه بالسوء سرا وعلنا.. إذن فابن عساكر قال هذه الجملة للحنابلة -السلفيين ومن وافقهم من الإخوان الآن- الذين يردون بنفس الجملة الآن على من ينتقد مشايخهم.
نعود إلى نص ما كتبه ابن عساكر فى كتابه: «واعلم يا أخى.. أن لحوم العلماء رحمة الله عليهم مسمومة، وعادة الله فى هتك أستار منتقصيهم معلومة، لأن الوقيعة فيهم بما هم منه براء أمر عظيم، والتناول لأعراضهم بالزور مرتع وخيم».. نكتشف من النص أنه حتى الاستشهاد بما قاله ابن عساكر للذود عن المشايخ والدفاع عن كل رمز دينى مقدّس هو استشهاد باطل، فقد حدد ابن عساكر براءة العالم مما هو منسوب إليه، وأن يكون ما يقال عنه زورا.. طيب.. ولو كانت سقطات الشيخ السحيقة وتأويلاته الباطلة وآراؤه الفاسدة واضحة للعيان ومسجلة صوتا وصورة، فكيف نعصم ألسنتنا من رده وتقويمه وانتقاده؟ وكيف نعصم قلوبنا من الشك فيه والبعد عن فتاواه؟
مر صحابيان جليلان على الرسول صلى الله عليه وسلم ومعه زوجته، فأسرعا، فاستوقفهما النبى وقال لهما: على رِسلكما، هذه زوجتى صفية، قالوا: أفيك نشك يا رسول الله؟ قال: لئلا يدخل الشيطان عليكما.. فهذا رسول الله أراد ببساطة أن يزيل الشك من قلوب الصحابة رغم أنه رسول الله الذى كان قرآنا يمشى على الأرض، أراد أن يستأصل النبتة الخبيثة التى من الممكن أن تنمو فى قلوب أصحابه.. لو حدث هذا الآن لشيخ من الشيوخ، وأردت الاستفسار لصرخ فيك صاحبك: احذر.. لحوم العلماء مسمومة، كأن مجرد إطلاق لقب «شيخ» على أحد هو بمثابة العصمة التى تمنعه من سهام الظن وإرهاق المناقشة والجدل.. هذه إذا تغاضينا أصلا عن الفرق الشاسع بين العالِم، وبين كل من يُطلق عليه لقب «شيخ».
إذن فالمشكلة الأولى فى جملة «لحوم العلماء مسمومة» -التى هى قول مأثور وليست قرآنا أو حديثا قدسيا أو نبويا- ظنُّ البعض أنه بموجبها يصبح العلماء فوق النقد وفوق المناقشة وفوق سوء الظن المترتب عادة على أفعال باطلة منهم واضحة وضوح الشمس.. أما المشكلة الثانية فهى قصر «السم» على لحوم العلماء، كأن لحومهم مسمومة ولحوم غيرهم كباب وكفتة بالهنا والشفا. والحقيقة أن الله سبحانه وتعالى عندما نهى عن الغيبة والنميمة لم يحدد أكان اللحم الميت لعالم أم لجاهل، الكل سواء، والقذف والطعن واللعن والمعايرة والتعريض كلها آفات يتساوى فاعلها سواء أكان إسلاميا أو ليبراليا، ويعانى منها المفعول به سواء أكان عالما أو جاهلا. أما من يقول إن مناقشة العلماء -أو الشيوخ- والحط من شأنهم هو هدم للإسلام، فلا يسعنى سوى أن أقول له: لا خوف على الإسلام فهو باق، وإنما الخوف كل الخوف مما يفعله المسلمون بالإسلام.