كيف يكون الحاكم فاسدًا؟ وهل من الواجب أن يتحلّى الحاكم بكل صفات التقوى والأمانة والقوة لتنهض الأمة؟ الحقيقة أن سر طرح هذين السؤالين هو نظر البعض إلى تعريف الفساد كأنه لا بد أن يكون فسادًا ماليًّا، وأيضًا موجة البحث عن حاكم هو للملائكة أقرب من البشر.. فالحاكم الفاسد ليس بالضرورة أن يكون فساده المالى ونهب أموال الشعب هو طريقه للفساد، فإذا طبّقنا نظرية الفساد المالى، فإن عبد الناصر سيصبح قديس الرؤساء، والسادات سيصبح الرئيس المؤمن لقبًا وعملًا، فأى منهما لم نعرف عنه فسادًا ماليًّا رغم تكفير أو كراهية بعض التيارات الإسلامية للأول وقتل الثانى.. إذن فطهارة اليد والتقوى والزهد، كل هذه الصفات لا تصنع حاكمًا عادلًا قادرًا على دفع البلاد إلى الأمام.. ربما يكون الفساد سياسيًّا بغياب الرؤية والعمل على توتر العلاقات الخارجية والداخلية، ربما يكون الفساد اجتماعيًّا بقطع أواصر المحبة بين فصائل المجتمع، وتزكية نار العصبية والطائفية، ربما يكون الفساد دينيًّا باستخدام الدين كغطاء لأفعال أقل ما تتسم به أنها لا تمت إلى الدين بصلة.
أما السؤال الثانى، فالإجابة بالطبع لا.. الأمانة والقوة صفتان لازمتان لأى قائد أو حاكم أو زعيم بمفهومهما الواسع، فالأمانة أمانة مع الله وتعاليمه ومع الشعب ومع العالم كله، توضيح المفاهيم والظروف التى يمر بها المجتمع، النظر إلى المصلحة العامة لا مصلحة الأفراد وهكذا، والقوة أى الأخذ بيد من حديد على المفسد والطالح، وإعلاء كلمة الحق والعدل وهكذا.. ولكن للأسف قلما أن تجتمع الصفتان بنفس النسبة فى شخص واحد، وإن كان هذا لا يقلل من فضل مَن اتصف بهما بنسب متفاوتة كما سنذكر من الصحابة.
يقول ابن تيمية «اجتماع الأمانة والقوة فى الناس قليل»، كما ذكر محمد الشنقيطى فى كتابه «الخلافات السياسية بين الصحابة».. ولهذا استعمل النبى خالد بن الوليد رضى الله عنه، على الحرب منذ أسلم وأطلق عليه «سيف الله المسلول» رغم ما عرف عن خالد من شدته ورهق سيفه فى القتال، حتى إن الرسول رفع يديه للسماء وبرأ نفسه إلى الله مما فعل خالد فى إحدى المعارك.. فهذا ممن غلبت قوتهم أمانتهم وتقواهم، وعلى العكس ستجد أبا ذر الغفارى على ما عرف عنه من التقوى والورع والأمانة إلا أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، لم يستعمله وقال له «يا أبا ذر إنى أراك ضعيفًا لا تأمرن على اثنين..».
نخلص مما سبق إلى أن فساد الحاكم لا يقاس بما نهبه من الشعب وما استحله من أموال الدولة وإنما من مجمل أعماله ونتيجتها، فالحاكم الذى يقتل الناس فاسد، والذى يسلب من شعبه حريته فاسد، والذى يورد البلاد المهالك بغبائه السياسى فاسد، والذى يعتقد أنه «أنا الدولة والدولة أنا» فاسد، والذى يمرر اتفاقيات وصفقات سرية رغبة فى مجاملة طائفة من شعبه على حساب طوائف أخرى فاسد.
ونخلص أيضًا إلى أن الحاكم الكامل ليس على أرضنا للأسف، ربما إذا تعبت نفسك قليلًا ستجده على الناصية المجاورة فى المريخ أو الزهرة، فهذا خالد بن الوليد وهذا أبو ذر الغفارى، وبينهما رسول الله، صلى الله عليه وسلم.. ويؤكد ابن تيمية أن -مثلًا- أبا بكر الصديق وعمر بن الخطاب كانا يعرفان نقاط ضعفهما وقوتهما، وتعامل كل منهما معها بذكاء القائد النابه، ولذلك ستجد أن أبا بكر الصديق الخليفة «الرئيس» الذى اشتهر بالتقوى والأمانة واللين، جعل خالد بن الوليد الذى عُرف بالقوة والبطش واليًا «محافظًا»، أما عمر بن الخطاب الذى اشتهر بالشدة والقوة فجعل أبا عبيدة بن الجراح الذى عرف بلينه وورعه واليًا، فولّى اللين الشديد، وولى الشديد اللين، ليعتدل الأمر والحكم.
إن الحاكم الذى يتولى أمر دولة، ويعتقد أن حق الشعب هو إقرار الذمة المالية فقط هو حاكم واهم غبى، فالشعب سيحاكمه على كل فساد اقترفه وعلى كل نقطة يخسرها الوطن فى سباق التقدم والحرية، والشعب الذى يظن أن حاكمه مبرّأ من كل عيب هو شعب يحتاج إلى إعادة تأهيل.