(1)
قبل عام 1944 أغلب الظن أن مشاهدة الأفلام الأجنبية كانت قاصرة على الجالية الأجنبية التى كانت تعيش فى مصر وقتها على هامش الاحتلال؟
لم يكن الأمر مهما بالنسبة إلى عامة الشعب المصرى، إلا أن شابا مصريا خريج كلية الهندسة كان يجلس فى ظلام إحدى دور السينما الصيفى فى القاهرة، يتابع فيلما أجنبيا مع صديق له، كان الشاب المهندس بارعا فى الإنجليزية، ويبدو أن صديقه كان يعلم ذلك جيدا، فقرر أن يسأله عما يقوله الأبطال فى كل مشهد، الأمر الذى أفسد متعة المهندس، فظل يفكر فى حل ما لهذه المأساة المتكررة.
ويوم أن وضع المهندس قدمه فى باريس ليبدأ مشوار الحصول على ماجستير الهندسة قادته الصدفة إلى الحل.
هنا وللمرة الأولى يظهر اسم أنيس عبيد فى بداية الفيلم على غير العادة.
(2)
لا أحد يعلم متى كان سيأتى اليوم الذى يشاهد فيه المصريون فيلما مترجما، ربما كان الأمر عرضة للتأخير، وكل يوم تأخير كان يعنى تدهورا ما فى صناعة السينما المصرية، وهو ما وضع أنيس عبيد له حدا، فتفتحت مدارك عموم الجماهير والصناع، حيث أصبح عبيد همزة الوصل بيننا وبين تغيير طريقة تفكيرنا فى الأمر كله. صار تقييم الأفلام المصرية لا يتم بمعزل عما وصل إليه الخواجات على مستوى الحرفة والمتعة،أصبح عبيد بتجربته دليلا لنا فى عوالم الفن، بعيدا عن المدار الثابت الذى كنا ندور فيه.
كان عبيد خير ساعى بريد لنقل الرسائل الضمنية فى أفلام الخواجات لنا ببساطة غير مخلة وبقوانينه الخاصة التى كانت موضع سخرية لفترة، إلى أن تفهَّمنا وجهة نظره بعد رحيله وظهور آخرين فى المضمار نفسه.
يلومه البعض على أنه مؤسس نظرية ترجمة الشتائم الأجنبية بشتائم من عصر ما قبل ظهور الإسلام، فـ«فاك يو» هى «تبًّا لك»، بينما «آس هول» هى مرادف «يا أحمق»، بينما «صون أوف بيتش» هى «يا لك من وغد»، قد يعتبره المتحذلقون مترجما خائنا، ولكن ضع نفسك مكانه، على الأقل اجتهد الرجل ووضع مكان ترجمة الشتائم كلاما له معنى، فماذا فعل جيلنا والجيل الذى يليه؟ اخترع الترجمة بـ «تيييت».
عبيد المولود فى أسرة مصرية راقية لم تكن الترجمة حرفته، حتى سافر إلى باريس للحصول على ماجستير الهندسة، وفى مقر الجامعة قرأ إعلانا بالصدفة عن دورات تدريبية لـ«كيفية دمج الترجمة المكتوبة على شريط السينما».
كانت دورة تدريبية الهدف منها دعم الأفلام العلمية، حيث هناك حاجة ملحة طول الوقت لكتابة المصطلحات على الشاشة، لكنه وجد فى الأمر مدخلا لعمل جديد يجمع بين هوايته السينمائية وبين نوع من البيزنس غير موجود فى مصر.
خاض عبيد معركة مع صناع السينما فى مصر لإقناعهم بالفكرة، ربما كان الخوف من التكلفة التى ربما لا تبق نجاحا لدى جمهور غير مهتم بأفلام الغرب.
طبَّق عبيد مشروعه على أكثر من فيلم قصير، وقدمها فى عروض خاصة مجانية حتى تأكد الصناع من احتمالات نجاحها، بحثوا عن فيلم ناجح ليبدؤوا فى تطبيق التجربة عليه، فاختاروا فيلم «روميو وجولييت» ليشهد عام 1944 عرض أول فيلم مترجم محققا إيرادات غير مسبوقة.
بعدها وعلى مدى أربعين عاما انفرد عبيد بالمهنة حتى صارت اليوم مبتذلة، يستطيع أى شخص أن يقوم بها بتحميل الترجمة من على الإنترنت ولصقها ببرنامج «Virtual Dub» مع تحيات «أمير الصحراء» أو «برنس الأردن»، يرتاح الواحد كثيرا لفكرة أن عبيد رحل قبل أن يحضر هذا العبث الذى يتجلى بأن تحتوى الترجمة على تنبيهات فى أثناء المشاهدة (انتبه هناك مشهد ساخن قادم).
(3)
فى العام الذى رحل فيه أنيس عبيد (1988)، كان قد أتم مهمته بنجاح فى تعريفنا على العالم، فى المقابل وعلى هامش وفاته كان العالم يتعرف علينا من جديد، فبعد نشر خبر رحيل عبيد الصفحة الأخيرة من «الأهرام» بفترة، ظهر فى الصفحة الأولى صورة لـ«نجيب محفوظ» يرتدى البيجاما ويمسك بزهرية كبيرة ومكتوب «نجيب محفوظ يتسلم جائزة نوبل من السفير السويدى».
اليوم بينما أكتب عنه كواحد من الصنايعية أتأمل اللحظة التى كان يجلس فيها عبيد على مقهى فى باريس يراقب كشاب فى مستهل حياته صراعا داخليا شديدا بين قرارين، قرار الحصول على الماجستير، وقرار التخلى عن الهندسة والتفرغ للسينما، أفكر أنه من حسن الحظ أن هذا الصراع كان يدور فى الغربة بعيدا عن كلاسيكية تفكير المصريين فى المستقبل، حيث كان مؤكدا فى حال عرض الأمر على من حوله فى مصر أنه سيسمع تعقيبا واحدا.. «تبًّا لك».