هل المعرفة حِكر على الإنسان المتمدن؟!.. بالطبع لا.. فالإنسان الهمجى أيضا يتحلى بالمعرفة.. إلا أن إدراك القيمة الحقيقية لتلك المعرفة هو ما يميز الإنسان المتمدن عن الإنسان الهمجى أو السوقى.. فالهمجى يهمه فى المقام الأول الفائدة المباشرة التى قد تعود عليه من تلك المعرفة.. بينما المتمدن ينظر إلى ما هو أبعد من ذلك.. ينظر إلى الفوائد غير المباشرة لتلك المعرفة وما يمكن أن تعود به من فائدة قد تنعكس على روحه إيجابا فتجعله يشعر بالجمال.. ذلك الجمال الذى قد يكون متمثلا فى فيلم أو تمثال أو رواية أو لوحة أو أى نوع آخر من أنواع الفنون عموما..
لذلك فالعبرة فى تحديد كونك أقرب إلى الهمجية أو إلى المدنية لا تعتمد فى الأساس على ما تتحلى به من قيم بقدر ما تعتمد على الكيفية التى تنظر بها إلى تلك القيم.. فالمعرفة واحترام المرأة والإعتقاد فى الله والصدق والنظافة والكرم والعدل ومثل تلك القيم التى قد يظنها البعض تصلح كعلامات من علامات الإنسان المدنى المتحضر ليست كذلك كما يقول الكاتب الإنجليزى «كلايف بل» فى كتابه «المدنية».. حيث أن هناك العديد من القبائل المتوحشة عندها من القدرة على إقامة العدل ما ليس عند قاضى إنجليزى ( وبالتاكيد طبعا ما ليس عند المستشار أحمد مكى ) كما أن السرقة لم تكن واردة تقريبا عند الهنود الحمر فى أمريكا الشمالية حتى جاء الجنس الأبيض ( الذى من المفترض انه هو الجنس المتحضر ) ليسرق من الهنود أرضهم ويقتلهم ويغتصب نسائهم ويمارس كل ما يمكننا أن نضعه تحت بند الإنحراف الأخلاقى الوحشى الفاجر فى فصل آخر من فصول تاريخنا الإنسانى المتشقلب والعبثى والتى نعتبر فيها المتمدن بحق مثل الهندى الأحمر صاحب الأرض الأصلى هو الهمجى.. بينما نعتبر الهمجى بكل ما تحمله كلمة الهمجية من معنى مثل الرجل الأبيض سارق الأرض ومغتصب النساء هو المتحضر والمتمدن.. كما أن أحط سكان الغابات الأسترالية وأشدهم توحشا وانعزالا عن الحضارة يعتقدون فى الله وفى الحياة الآخرة.. وأما فيما يخص مكانة المرأة كدلالة على التحلى بقيم المدنية فسوف نجد أن بعض القبائل المتوحشة المنعزلة كقبائل «البوشمان» و«الفيدا» ترتفع بالمرأة إلى حد التأليه فى بعض الحالات بينما كان الصينيون فى عصر «سونج» - وهو العصر الذى يصفه المؤرخون بالعصر الذى جسد قيم المدنية فى الصين - لا يرفعون زوجاتهم فوق قدر الماشية إلا قليلا.. كما يؤكد الكثير من المستكشفين أن أفراد قبيلة الفيدا المتوحشين من أهل سيلان نماذج تحتذى فى الصدق.. كما أن «البوشمان» يعتبرون الكذب ذنبا كبيرا لا يغتفر.. كما أن أفراد قبيلة «منبتى» من آكلى لحوم البشر بساحل الذهب البائس يعتبرون النظافة ركنا من أركان الحياة ويغتسلون مرتين او ثلاثة فى اليوم.. بينما يعتبر الرجل من قبائل «الكاردوك» – أحط القبائل على وجه الأرض كما يصفها الباحث «وستر مارك» - أن معاشرته لإمرأة اخرى بخلاف زوجته قد يجلب عليه العار حيث يعد إنعدام العفة فى تلك القبائل إثما مميتا يستحق النفى أو القتل.. وحتى قيمة مثل قيمة الوطنية لا تعد دليلا على تحديد ما إذا كنت همجى ام متمدن حيث يقول الباحث «ماك جريجور» عن شعب «اليوروباس» فى غربى إفريقيا أنه « ليس بين بنى البشر من هم اكثر منهم إخلاصا ووطنية وحب لأرضهم» وعلى الرغم من ذلك فهم متهمين بأكل المبشرين الذين ذهبوا إليهم ضمن البعثات التبشيرية فى أوائل القرن الماضى !
لذلك فإن التحلى بتلك الصفات لا يعد دليلا على تحليك بقيم المدنية من عدمها حيث أن همج كثيرين يتحلون بتلك الصفات.. إذن.. إذا لم تكن تلك الصفات الجميلة هى ما يميز الإنسان المتمدن عن الإنسان الهمجى فما هى الصفة التى تميزه؟!
الإنسان المتمدن يعلم أنه قد يفعل شيئا الآن ليجنى ثماره بعدين.. وليس الآن برضه.. الإنسان المتمدن بحق هو الإنسان اللى بيبص لبعيد.. مش تحت رجله.. لهذا بصوا لبعيد وانتوا بتبنوا البلد.. ما تبصوش تحت رجلكوا.. بس كده.