ألا يثير التساؤل: كيف يخرج الناس فى الطرقات العامة بمثل تلك الكثافة غير المسبوقة ليقولوا لا لحكم أثبت فشله الذريع فى إشباع الحد الأدنى من احتياجاتهم، ثم يفضى ذلك كله لخيار إدارة جديدة متمثلة فى رئاسة للوزراء سبق تجربتها فى وزارة شرف بعد ثورة يناير 2011، ولم تفلح آنذاك فتيلا؟!!
لم يكن حكم مرسى فاشلا على المستوى الداخلى وحسب، وإنما كان بالمثل راكعا لمطالب الغرب على مستوى الصراع العربى الإسرائيلى حين «ضمن» عدم توجيه حماس، باعتبارها تابعة لمنظمة الإخوان فى مصر، أى ضربات موجعة لتل أبيب، ومن ثم كان عليه أن يلبى «طلبات» حماس على حساب الشعب المصرى حتى يضمن ولاءها له و«لإخوانهم» فى مصر، كما أنه عرض بذلك الأمن المصرى متمثلا فى قواتنا المسلحة الذائدة عنه للخطر من جانب إسرائيل فى حالة «خروج» حماس على طاعته إن لم يلب طلباتها على حساب ما يحتاجه الشعب المصرى من وقود وخلافه.
نعود للتساؤل الذى طرحناه فى المقدمة: ألا نلاحظ التناقض بين احتياج الناس، الذين خرجوا بكل تلك الكثافة غير المسبوقة للاحتجاج فى الطرقات العامة على انتهاك أبسط حقوقهم الإنسانية فى الحياة، ووقوف قواتنا المسلحة إلى جانبهم على الرغم من كل الضغوط الغربية، وعلى رأسها الأمريكية، التى ظلت منحازة لـ«شرعية» الصندوق، الذى أتى بمرسى دونما اعتبار لصاحب الشرعية الأصلى، وهو الشعب المصرى الذى فجع فى حكمه، معللة انحيازها له بحجة الصندوق، بينما هى تعلم تماما أن موسولينى وهتلر أتيا بدورهما عن الطريق نفسه، ثم تدعى أن وقوف القوات المسلحة لجانب الأغلبية العظمى من الشعب المصرى بعد أن رفض مرسى استفتاء الشعب على استمراره فى الحكم متمسكا بـ«حقه» فى الحكم- يعد «انقلابا عسكريا» على «الشرعية»؟
ألا يتناقض ذلك التوجه الشعبى الثورى مع العودة للامتثال الكامل للعوامل الخارجية متمثلة فى السوق العالمية، وهو ما تفصح عنه توجهات رئيس الوزراء المكلف؟
فثورة الثلاثين من يونيو 2013 نبعت من احتياجات داخلية تنكَّب حكم مرسى عن إشباعها، وتناقضت فى آن مع مصالح غربية كانت «سعيدة» بوجود مرسى لما يضمنه لها من «استقرار»، ولو كان ذلك على حساب الشعب المصرى. من هنا كان توصيف الإعلام الغربى لمرسى بأنه يمثل «الإسلام المعتدل»، ومن هنا أيضا كان «غضب» الغرب من الإطاحة به، وتوصيف ذلك بأنه «انقلاب عسكرى»، على الرغم من أنه فى هذه الحالة يختلف كيفيا عن انقلاب 1952 فى أنه أعلن منذ البداية أنه لا يبغى سوى تأمين انتقال السلطة للشعب صاحبها، لا أكثر.
لذلك كان مقترح بعض شباب ثورة يونيو أن يقوموا بزيارات إعلامية للعواصم الغربية، لتوضيح حقيقة مسار هذه الثورة.
إلا أنه وقبل أن يقوموا برحلتهم هذه قد تغير الموقف الرسمى والإعلامى فى الغرب بمجرد اختيار حازم الببلاوى رئيسا للوزراء، فالمعروف عن هذا الأخير أنه شديد الإيمان بحرية السوق، ومن ثم فهو يراهن على الاستثمارات الخارجية فى المقام الأول كحل للحاجات الاقتصادية فى الداخل، وذلك بما يجعل الداخل ملحقا للخارج فى تحقيق احتياجاته. الأمر الذى يعجب القوى الخارجية بلا شك.
بينما يظل السؤال المطروح هنا: إلى أى حد يمكن لسياسة اقتصادية تُغلِّب الخارج على الداخل أن تحقق الاحتياجات الموضوعية للشعب المصرى، الذى ثار بسبب إحباطها؟ وإذا كان من غير المعقول ولا الممكن أن نغلق الأبواب علينا، أليس من التطرف أيضا أن نركز على جذب الاستثمارات الخارجية لإمكاناتنا فى الداخل دون أن نضع مصالح الداخل فى مقدمة حساباتنا، وهو ما يعنى ضرورة أن تكون لنا سياسة تخطيطية تمفصل علاقاتنا بالسوق العالمية كى تصب أولا وثانيا وأخيرا فى مصالح الغالبية العظمى من شعبنا فى الداخل؟
ترى هل تبشر حكومة الببلاوى بمثل ذلك، وهو الذى يؤمن إيمانا مطلقا بحرية السوق فى «إشباع» الاحتياجات الفعلية لأغلب المواطنين؟ أشك فى ذلك كثيرا، بل أخشى أن يفضى إيمانه المطلق بـ«ترياق» السوق وحدها لعودة الشعب للشارع ليجأر بالشكوى والاعتصام من جديد.