بحثت حركة تمرد فى أوراق التاريخ واستعادت التوكيلات التى أودعها المصريون باسم زعيم الأمة سعد زغلول ليصبح وكيلا عن الشعب، وهكذا وقَّع لهم 30 مليون مصرى طالبوا بإسقاط مرسى عن الكرسى.. الحقيقة أن سعد زغلول حاضر بقوة فى تاريخنا السياسى قبل تلك الواقعة عندما منعت قوات الاحتلال البريطانى ترديد اسمه، فكان الوجدان الشعبى حاضرا بقوة من خلال وسائل دفاع لا تستطيع أن تمنعها الأجهزة القمعية البوليسية، وهكذا أطلقوا على نوع فاخر من البلح اسم زغلول الذى لا يزال حتى الآن ينادى عليه البائعون يا بلح «زغلول».
ومن الواضح أن المصرى الذى لجأ إلى هذه الحيلة فى ثورة 1919 لا يزال يعتبر البلح، خصوصا فى رمضان، هو أحد أهم وسائل التعبير وإعلان الرأى، وهكذا توجه إلى ثورة 30 يونيو وأطلق الباعة اسم الفريق أول عبد الفتاح السيسى على نوع فاخر من البلح لا ينافسه سوى نوع آخر أطلقوا عليه «تمرد» ليعتليا القمة الشرائية.
بين الحين والآخر تلعب السياسة دورا فى هذا السوق الرمضانية، ومن المفارقات أنه فى عام 2009 عندما كانت الدولة تسعى لتنفيذ ملف التوريث باعتباره أمرا واقعا توجهت إلى سوق البلح وأطلقوا اسم جمال مبارك على نوع فاخر، ولم تكن النتائج فى صالحه، حيث تضاءل الإقبال عليه، وكرروا نفس المحاولة فى العام التالى، وظل الناس رافضين هضم هذا المشروع الشرير.
تستطيع أن ترى أصابع أمن الدولة وراء ذلك، فلم يكن يجرؤ بائع بلح أن يضع اسم جمال على جوال ويحدد السعر إلا إذا كان هناك من طلب منه ذلك.. كانت أجهزة الدولة لا تترك الفرصة إلا وتستخدم كل ما يمكن وما لا يمكن أيضا، لكى تمهد المجتمع لتقبل التوريث ولتسويق اسم جمال ليس فقط كأمر واقع ولكن كحل وحيد.
بعد الثورة ظلت معركة البلح قائمة، فكان أغلى الأنواع هو بلح الثورة، وتصدرت أسماء مثل وائل غنيم وأحمد حرارة المشهد باعتبارهما الأغلى والأفضل، بينما وضعوا أسماء مساجين طرة فى رمضان 2011 باعتبارها الأردأ، بلح جمال وعلاء والعادلى وعز وغيرهم احتل ذيل قائمة الأسعار، وكأن الأقدار ترد لهم الصفعة صفعتين.. كان البلح هو أحد وسائل الدولة لكسب نقاط فى صالحها، فصار بعد الثورة هو الوسيلة الشعبية لكشف فسادها!!
سوق البلح وتستطيع أن تضيف إليها أيضا سوق الفوانيس فى رمضان، كان يبدو لى وكأنه بمنزلة استفتاء جماهيرى تلقائى يكشف توجهات الرأى العام ليس فقط على المستوى الفنى أو الرياضى، ولكن أيضا السياسى، حيث كان البلح دائما يمنح أسعارا مرتفعة للنجوم الشعبيين فى التمثيل والغناء وكرة القدم، وتتغير الأسعار من موسم إلى آخر تبعا لمواقعهم الجديدة، مثلا أبو تريكة كان الأعلى بعد ذلك صار جدو هو الأعلى.. نانسى وهيفاء كثيرا ما كانتا تتبادلان المركز الأول.. كان الرئيس الأمريكى أوباما يحتل مكانة مميزة فى 2010 نظرا لإعجاب المصريين بمواقفه، بعد ذلك هبط سعره مع هبوط شعبيته ومصداقيته، وبعد موقفه من ثورة 30 يونيو اختفى اسمه تماما من السوق.
هل تريد أن تعرف بالضبط ما مشاعر الناس فى العشرين عاما الأخيرة حاول أن تقلب فى أسعار البلح خلال رمضان، حيث إن هذه الموضة عرفناها فى النصف الثانى من الثمانينيات مع النجاح الطاغى وغير المسبوق الذى حققه مسلسل «ليالى الحلمية» فى رمضان قبل عصر الفضائيات عندما كان المصريون يشاهدون فقط القنوات الأرضية، وفى نفس التوقيت ومن عام إلى آخر صعدت أسماء نجوم «ليالى الحلمية» وحققت صفية العمرى الشهيرة بنازك السلحدار أعلى حالات النجاح الجماهيرى، خصوصا أن الناس كانت تتابع الصراع الدائر عليها بين العمدة سليمان الغانم صلاح السعدنى والباشا سليم البدرى، وتتابعت أسماء النجمات من عام إلى آخر، كل على حسب نجاحه الرمضانى!!
للمصريين وسائلهم المبتكرة فى التعبير، ولو عدنا إلى الأسواق ليس فقط البلح والفوانيس، ولكن أيضا الجلاليب النسائية التى تطلق على النجمات المحبوبات الجانب الآخر للصورة هو أن عددا من المكتبات صارت تعرض أقلاما تحمل أسماء الكبار مثل نجيب محفوظ ومحمد حسنين هيكل ونزار قبانى.
هل تريد أن تعرف من أنت وكم تساوى فى ضمير الناس؟ عليك بجولة سريعة فى الأسواق!!