خلاصة ما كتبته هنا أمس أنه لا معنى ولا فائدة تذكر، بل ربما هناك ضرر مؤكد من هذا الإلحاح البغبغاوى وتلك الزفة الصاخبة التى ينشد فيها بعض «وليس كل» نخبة السياسة والإعلام تلك «الغنيوة» الهابطة البليدة عن «لم الشمل» مع زجليات سطحية أخرى من نوع «المصالحة» وإنهاء ما يسمى «انقساما» وهميا فى مجتمعنا المصرى، رغم أنه يعيش فعلا حاليا دولة وشعبا، حالة تماسك وتوحد نادرين يؤلفان بين أهم وأغلب مكوناته وتنوعاته، كرد فعل طبيعى لخطر وجودى عظيم واسثنائى فرض هذه الوحدة فرضا على النحو الذى تجسد فى تلك اللوحة الرائعة البليغة، التى رسمها عشرات ملايين المصريين وهم يخرجون قبل أقل من أسبوعين إلى شوارع وميادين البلاد من أدناها لأقصاها، لكى يدحروا «جماعة الشر» السرية ويزيلوا عارها وإجرامها وينهوا أكبر وأسوأ عملية سطو على مصر فى كل تاريخها المعاصر والحديث.
لقد ختمت سطور الأمس بسؤال بدت ملامح الاستنكار فيه واضحة إذ كتبت نصا: أين هو الانقسام الذى ينتظر «لم الشمل»، وعلى أى شىء ومع من «تتصالح» مصر شعبا ومجتمعا ودولة؟!.. واليوم أجاوب، لكنى قبل أن أشرع أود أن أكون واضحا، فلست ضد مفهوم «الوحدة الوطنية» التى هى شرط لازم وضرورى ضرورة حيوية فى مراحل ومفاصل تاريخية تواجه فيها الأمم والأوطان مخاطر «خارجية أو داخلية» أو استحقاقات مصيرية من النوع الذى يفرض نفسه فى المراحل الانتقالية التى تعقب الانتفاضات والثورات العظمى، إذ الواجب فى هذه المراحل أن ينشغل الجميع ويتشاركون فى إنجاز مهمة إرساء دعائم الوطن الجديد وصنع مستقبل أكثر إشراقا، هنا لا بد من هدنة يتوقف فيها التبارى والتنافس السلمى الطبيعى بين تنوعات وانحيازات اجتماعية وسياسية وفكرية مختلفة أو حتى متناقضة، وإفساح المجال أمام تشارك وتعاون صادق ليس هناك سبيل غيره للنجاح فى إنجاز مهمة وطنية استثنائية، عمودها الفقرى وضع أسس وقواعد وأصول لعبة الديمقراطية رشيدة ومتطورة تضمن نزاهة التنافس وتكفل عدالة سير المباراة الدائمة بين أفرقاء المجتمع جميعا.
غير أن «الوحدة الوطنية» بالمفهوم والمعنى المشار إليه فى الفقرة السابقة شىء، و«الزجليات» الفارغة والغناوى الهابطة التى نسمعها هذه الأيام عن «لم الشمل» وأكاذيب «انقسام المجتمع» شىء آخر مناقض تماما لهذا المعنى، ويؤدى إلى إلحاق أشد الضرر بوحدة وتماسك مكونات المجتمع وإعادة إنتاج كوارث رهيبة خرج الشعب المصرى فى الثلاثين من يونيو الماضى، وثار ثورة عارمة نادرة لكى يحمى نفسه منها ويقضى على أسبابها قضاءً مبرمًا.
وحتى لا يكون الكلام فى هذا الأمر مجردا وعاريا من الحيثيات والأدلة، فإننى أكتفى بإشارة سريعة إلى ضرر تحقق فعلا على أرض الواقع الراهن بسبب هذا التفكير العشوائى البدائى على طريقة هيا بنا نتصالح ويبوس بعضنا رؤوس بعض، وكأننا خرجنا للتو من «خناقة» على الرصيف بين طرفين متماثلين ومتكافئين، وليس أن مصر دولة ومجتمعا انتفضت ضد مشروع فاشستى فاشل ومجرم حاولت «جماعة الشر» وحلفاؤها إقامته فوق جثة هذا البلد وشعبه. أقصد بالضرر هذا التسرب الخطير لبعض أسوأ ما احتواه «الدستور المسموم» الساقط الذى طبخته الجماعة وحلفاؤها الإرهابيون الجهلة بليل، إلى بنود ونصوص الإعلان الدستورى الأخير المؤقت استجابة لابتزاز مفضوح وفاحش مارسه بعض قطعان الجهالة التى قفزت من مركب حلفائها الغارق، لأسباب انتهازية بحتة!
لكن المساحة تآكلت وضاق المجال، فأشرح وأكمل غدا إن شاء الله.