كل ما حدث فى تاريخ المسلمين من كوارث وفتن فى كفة، وما حدث بين عامى 35 هجرية و38 هجرية فى كفة، فقد بدأت تلك الأعوام بمقتل سيدنا عثمان بن عفان مرورا بخلافة سيدنا على بن أبى طالب وموقعة الجمل والتحكيم.. وهذه الفترة هى فترة أم الفتن، فمن هنا عرف المسلمون كيف يتقاتلون، وكيف يقف المسلم أمام أخيه بالسلاح.. ومن الذى يتقاتل؟ إنهم صحابة رسول الله على الجانبين، هنا على بن أبى طالب وعمار بن ياسر وغيرهما، وفى الجانب الآخر أم المؤمنين عائشة وطلحة وغيرهما.. لا يمكن المزايدة، ولا يمكن الطعن فى إيمان أحد منهم، بل إن كلا منهم خرج فى ظنه مدافعا عن شرع الله والحق والعدل، كل منهم يحمل فى قلبه آيات وأحاديث وتفسيرات وقياسات تبرهن على موقفه.
الغضب يجتاح القلوب، والفتنة على أشُدها، والحقد يتسلل تدريجيا لأول مرة إلى نفوس ما عرفت وما جرّبت إلا المودة والمحبة والإيثار.. ورغم كل هذا فإن الإنصاف ما زال موجودا فى قلوب الجميع، والنبتة الطاهرة التى زرعها رسول الله فى قلوب أصحابه فأورقت وأينعت ما زالت تؤتى أكلها كل حين رغم سحابات الغضب العابرة.
يقف عمار بن ياسر رضى الله عنه فى الكوفة ليدعو الناس للخروج مع علىّ لقتال معاوية وعائشة، موقف كهذا لا يستدعى سوى بث الشحناء والكراهية وتزييف الحقائق.. إنه على مشارف حرب يدعو الناس إليها، فلا يعقل أن يمدح عدوه ويظهر مآثره لأناس سيقاتلونه بعد قليل.. هذا بمفهومنا الحالى ولكن عمار ضرب أروع الأمثلة فى الإنصاف وذكر الحقائق الثابتة الموثقة.. إنه يعلم أنه ما خرج للقتال إلا نصرة لله ولرسوله، يعلم أن الحق مع الخليفة على، ويعلم أن معاوية ومن معه هم الفئة الباغية، لكنه لا ينسى فى غمرة أفكاره أن من يعاديهم الآن هم صحابة رسول الله وزوجته، رفقاء الأمس.. لا مجال للاستخفاف ولا لتهوين الأشخاص ولا الحط من شأنهم.
وقف عمار بن ياسر قائلا: «إن عائشة قد سارت إلى البصرة، ووالله إنها لزوجة نبيكم صلى الله عليه وسلم فى الدنيا والآخرة، لكن الله تبارك وتعالى ابتلاكم ليعلم إياه تطيعون أم هى».. وفى رواية «فإن أمنا قد سارت إلى البصرة».. لا يمكن هذا التجرد من الشحناء والحقد.. يقاتل عائشة ولكنه يعلم ويذكر قدرها ويُعلِى شأنها أمام خصومها، ويعطى أيضا سببا واضحا لمحاربتهم إياها والخروج عليها.. يعطى المثل والقدوة على أنه لم يخرج منكرا فضلها أو نبوة زوجها أو فضل أبنائها من الصحابة وإنما فى سبيل الله.
تأخذ سكرة الغضب والحقد أحد المسلمين فيسب عائشة أمام عمار بن ياسر.. فى كل مكان وزمان ستجد هؤلاء وألعن.. لا يوجد خلاف شريف، لا يوجد خصومة فى الحق يظللها الإنصاف وذكر الفضائل، وإنما هم من الذين إذا عاهدوا كذبوا، وإذا خاصموا فجروا.. فى لحظات الوفاق والاتفاق، ياسلام.. صاحبى وحبيبى وكفاءة.. وحال أن تختلف الرؤى، لا يجيد هؤلاء سوى نشر الفضائح عمن كانوا بالأمس أعز الناس.. المهم أن الرجل نال من السيدة عائشة أمام عمار بن ياسر الذى يقاتلها، لم يسكت عمار، ولم يدر وجهه كأنه لم يسمع، ولم يعارضه معارضة هزلية خبيثة ظاهرها المعارضة وباطنها التأييد والشماتة، وإنما صرخ فى الرجل: اغرب مقبوحا.. أتؤذى حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
عمار بن ياسر انتصر هنا للمبدأ ولم يغير موقفه، ودلل أيضا على أن المبدأ أهم من الأشخاص، فها هى زوجة رسول الله فى الدنيا والآخرة وحبيبته، ورغم ذلك يخرج عليها مقاتلا انتصارا للمبدأ وتحطيما لقدسية الأشخاص.. لو كان لشخص ما قدسية تحميه من معارضة الناس وتزود عنه نصح الناصحين وغضب الغاضبين فلن نجد فى وقتنا الحاضر من هو أعظم وأجلّ من السيدة عائشة، ولكن هذا لم يحدث.. فهناك رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، اختلفوا واقتتلوا ولكنهم أنصفوا وعدلوا.. أما اليوم فقد غاب الإنصاف.. وغاب الرجال.