عرف العالم العربي تجربة الشرعية الأبوية التقليدية .. قبلية أو عائلية .. وهي مازالت حاكمة حتى الآن في بعض اوطان الأمة، تسمى نفسها ملكيات أو سلطنات أو مشيخات أو إمارات أوصافاً من هذا القبيل.
وعرف العالم العربي أيضاً تجربة شرعية الانتقال يبرز فيها دور الرجل الواحد زعيمًا شعبياً، او خلفاً له نادته الظروف من اقرانه أو من غيرهم.
وفي التجربة المصرية ـ وربما في غيرها ـ فإن تكرار دور الرجل الواحد ستة مرات لا يعني وجود وحدة في النسب .. او اتصال للسياق .. أو مصدر مستمر لذات الشرعية !
الرجل الرابع :
كان رجلاً آخر شاء تقديم نفسه بطريقة لا تلحقه بما قبله ، وعندما سئل كان حرصه على التذكير باسمه ، كامًلا ، ثلاثيًا «محمد حسني مبارك» ، لكي ينبه مبكراً إلى انه ليس خلفًا لسلف من يوليو أو من أكتوبر . وكان ذلك الحرص من جانبه ، تأكيدًا مضافًا لمنطق ان مرحلة الانتقال تنسب شرعية الرجل الواحد الى قيمة منجزاته. والحاصل ان تلك الصورة الرابعة في مرحلة الرجل الواحد بدأت واستمرت وعداً وعهداً بالتقدم نحو الشرعية الدستورية والقانونية.
وربما ان التطورات والمتغيرات في الوطن وفي العالم وفي الاقليم عّوقت وعطلت، وتسببت في تأخير يمكن فهم بعض دواعيه .
بين الدواعي ان الصورة الرابعة انتقلت الى موقع الصدارة من خلال عاصفة نار ودم تسبب فيها صدام بين النظام وبين عناصر تعصب ديني مقاتل يتصور على أحسن الفروض ان من حقه أن يسوق الناس الى الفردوس بتصويب السلاح الى صدورهم أو ظهورهم .. بين الدواعي ان ذلك الانتقال جرى في أجواء دولية ملبدة بضباب آخر معارك الحرب الباردة ، وهي المعركة التي وصفها «رونالد ريغان»الرئيس الأمريكي بالمعركة ضد امبراطورية الشر «كان الشر أيامها سوفييتيًا والآن أصبح الشر عربيًا أو اسلامياً !».. بين الدواعي أيضًا ان الاقليم راح يشهد أحوال وأهوال حروب أهلية في لبنان، والسودان، واليمن، والجزائر، إلى جانب حربين شاملتين في منطقة الخليج العربي بدأتا باقتتال داخلي بين الأطراف المباشرين ثم حلت النهاية طوق حصار على الجميع فرضته قوى كبرى .
فكما يقول الأستاذ «هيكل» "إن كثيرين من ذوي الرشد ساورهم ظن ان الصورة الرابعة تلزمها فسحة وقت من ناحية لأنه في أوقات الاضطراب يكون البطء أسلم من الاندفاع، ويكون احتمال ضياع فرصة ـ أكثر أمانًا من تحمل مخاطرة، ومن ناحية ثانية لأنه تبدى لكثيرين ان الصورة الرابعة في حاجة الى وقت تظهر فيه توجهاتها، لأن خلفية تلك الصورة آانت من الأصل بعيدة عن ألوان السياسة وتلك في ظروفها حكم قانون" .
وهكذا بدا «الانتظار» أدعى للسلامة ، لكن ما حدث بعد ذلك هو ان «الانتظار» تحول من سد فجوة الى طبيعة سياسية، كل شيء فيها مؤجل وأي تغيير عليها لا داعي له، فإذا اشتدت المطالبات وزادت الضغوط فإن المسموح به يجيء حلاً وسطاً يكرس الانتظار أآثر مما يسمح بالانطلاق.
ومثل ذلك وقع حتى في القضايا الكبرى.. بمعنى ان الهوية بدت في عديد من الأحيان ملتبسة، فلا هي وطنية تلزم حدودها، ولا هي قومية تحمل مسئوليتها.. ثم ان المرجعية ترددت في خياراتها الاجتماعية، فلا هي مرجعية التنمية الشاملة ولا هي مرجعية المبادرة الفردية، «وللانصاف فقد كانت هناك محاولة للخروج من هذه الحيرة بجهد واضح في مشروعات البنية الأساسية على انتظار أن يجيء فصل الخطاب، وأخيرًا جاء الترياق بالوصفة الجاهزة لصندوق النقد الدولي».. والشيء نفسه تكرر حيال مرجعية السياسة الخارجية، بمعنى ان ٩٩٪ من أوراق الحل في أزمة الشرق الأوسط ومستقبله بقيت في يد الولايات المتحدة ، لكن ذلك صاحبه شعور بالحرج من واقع تزايد انحياز الولايات المتحدة لاسرائيل.
وفي موقف الانتظار الذي طال، تداخلت الثوابت والمتغيرات. ونسي البعض ان الثوابت هي التي ترسي قواعد الاستراتيجية العليا للدولة، وان المتغيرات ترسم السياسات الآتية لها، وإذا أصبحت الثوابت متغيرات وأصبحت المتغيرات ثوابت، فقد غامت الرؤى وغابت المصالح الحيوية للأمة.. ومع مثل هذا الخلط في المعايير يصبح السلام، وليس الزمن، مطلبًا استراتيجياً، وتصبح مائدة المفاوضات، وليس نتائجها، غاية في حد ذاتها على ان هذا التداخل والخلط زاد مقداره بسبب طواريء تزاحمت وأحاطت بالشأن المصري .
الطاريء الأول: انه نتيجة اعتبارات مختلفة ، ان ادارة الموارد الاستراتيجية المصرية في المنطقة تناقص تأثيرها على نحو يستدعي القلق، «فمصر تبدو دائماً طالبة أكثر منها مطلوبة ، قاصدة أكثر منها مقصودة»، وذلك لا يريح، وهنا فإن تغطية نقص الفعل بزيادة الكلام لا يحل مشكلة، لأن الأدوار لا تقاس بما يدعيه طرف عن نفسه وانما تقاس بما يعترف به الآخرون.
والطاريء الثاني: ان هناك قضية قديمة جديدة ، ممزوجة بمياه النيل، كانت قد عادت تفرض نفسها بالحاح متجدد يضاف الى قيمتها الأصلية، وتلك هي علاقة مصر بالسودان، وهذه قضية تعرضت لأساليب متعددة في التعامل معها، وبصرف النظر عن التفاصيل ، فإن التطورات في السودان وقت مبارك وحتى يومنا هذا كانت تستدعي نظراً أكثر تركيزاً وأوسع فهمًا .
والطاريء الثالث: ان هناك صمتاً يبدو ثقيًلا، إزاء خطر زادت وطأته ملاصقاً للحدود الوطنية، ينادي بأنه ليس في مقدور مصر، بالتزامها القومي أو بدونه، أن تقبل على جوارها تفوقاً في المجالات العسكرية والعلمية والتكنولوجية ، تختل به موازين القوة على هذا النحو، فذلك وضع لم تعرفه مصر من قبل على طول تاريخها، وإذا كانت تحتاج الى درس فيه «رغم ان جوارها اسرائيل حادث مستجد» فكان على «مبارك» مراجعة تجارب التاريخ مما كان في أوروبا بين «فرنسا وألمانيا»، وفي آسيا بين «الصين واليابان»، وقريباً منها في البحر الأبيض بين «تركيا واليونان»، ثم يقرر دون عصبية لا تقفز فوق الواقع ولا تخضع له .. ان فجوة القوة على حدودها يستحيل قبولها أمرًا مسلماً به، وان تلك الاستحالة، وليس غيرها، هي تحدي القرن الجديد.. وان اسرائيل بما تقوم به في المنطقة وعلى نطاقها المباشر أو الأوسع، لم تعد بعيدة عن ذلك الحلم الذي تصوره مؤسس دولتها «دافيد بن جوريون» ، وهو حلم يسعى الى حصر مصر وراء حدودها، مع اطلاق يد اسرائيل في مشرق العالم العربي، ومن سوء الحظ ان مشاهد هذا الحلم اﻟﻤﺠنون تتوالى على خط الحدود المصرية ذاته، واصلة الى قطاع غزة، نافذة الى قرية رفح المقسومة الى نصفين بين مصر وفلسطين، ألم يكن يستدعي ذلك وقفة لازمة، بالضمير على الأقل !.
والطاريء الرابع: انه جرى عدوان متوحش على حُرمة المال العام، وفاحش على أمانة النظام المصرفي، وهذا العدوان المزدوج أهدر الحقوق واستباح القيم، وألحق أشد الضرر بالاقتصاد الوطني، فضلاً عن تأثيره على الضامن الأخلاقي والقانوني لهذا الاقتصاد الوطني ولغيره من شئون اﻟﻤﺠتمع .
والطاريء الخامس: ان كل البينات تشير الى ان الدور الثقافي المصري يتراجع، وذلك مثير كان للشجن، فقد كان لمصر دائمًا، حتى بغير العنصر السياسي وأدائه، اسهام ثقافي خلاق وملهم لم تشحب أنواره، وكان من المنتظر ان مكتبة الاسكندرية الجديدة تستطيع أن تكون شعاعًا في سماء رمادية عندما تقدر طاقة الفنار على اختراق آتلة المعمار .
والطاريء السادس والأخير: ان كل ظل حاضراً حتى تزامن أيضاً في التوقيت مع قضية خلافة تنتظر الحسم ، لأن رئاسة الجمهورية قد قاربت مدتها الدستورية بعد خمس فترات تناسخت، بدأت في ١٤ اكتوبر ١٩٨١ وكانت تتصل الى ٦ سبتمبر ٢٠١١ ، وكان لم يعد ممكناً لهذه الفترات بحكم الطبيعة أن تزيد.. فالجميع يعرف أن «الرجل قد بلغ منع العمر مالا يستطيع بعد عام واحد أن يجلس كرسيه دون أن يتحسس مخاضعه» وأقصد بالجميع شعباً وساسة ومعارضة وحكومة.. ومن هنا كانت إنتخابات برلمان ٢٠١٠ بهذه الصورة المُخزية واجبة ليرث الإبن وصحبته مصر ومن عليها وراثة غير شرعية.. إلا أن شباب «يناير» أبى أن يترك مصر تعيش في الحرام.
إن كان في العمر بقية.. غداً نتناول باقي الرجال.