منذ أن خرجت جماهير المصريين في الثلاثين من يونيو لتعلن عن سخطِها وخيبة أملها فيمَنْ تصدّوا للسلطة، وتصدح برغبتها التغيير، قلتُ– ولم يكن صوتي وحيداً – إن المزيد من العِناد الإخواني والاستعلاء على مطالب الجماهير، لن يحمي مرسي من السقوط، بل سيكون له أسوأ الأثر على أي مستقبل لجماعة الإخوان في مصر.
وكان ما حدث، عاند الإخوان الشعب، ومارسوا خطايا مبارك القاتلة، الإبطاء في الاستجابة ورفض تقديم تنازلات (حتى ولو كان استفتاء على شرعية رئيسهم)، فرحل مُرسي، وبغض النظر عن معركة المصطلحات وما إذا كان رحيله انقلاب ناعم أو ثورة شعبية، فإن أي استقراء موضوعي يقول إن أغلب المصريين وجُلّهم ارتاحوا لرحيل مرسي وإزاحة الإخوان من سُدة السلطة، والقول بغير ذلك مجرد مناطحة للحقائق، حتى وإن أقررنا إن البعض لم يشعر بذات الارتياح لطريقة رحيله.
والآن انتهى الأسبوع الأول على رحيل الإخوان ولازالوا مصممين على التصعيد بشكل غير مسبوق.
****
في فوضى السيل العرِم من الأخبار بعد تلاوة بيان القوات المسلحة مساء الثالث من يوليو سارعت وسائل الإعلام المختلفة لنقل أنباء عن اعتقال قيادات الإخوان، ومن بينها المرشد العام للإخوان ونائبه، وحظر سفر 300 شخصية من قيادات التيار الديني. وقلت ساعتها إن أغلب تلك الأنباء تبدو غير مؤكدة وأنها حرب نفسية أو اجتهادات صحفية غير مدققة. وكانت قراءتي للمشهد ساعتها إن القوات المسلحة لا ترغب (وربما لا تستطيع) الدخول في حرب تكسير عظام مع التيار الديني، وعلى رأسه الإخوان المسلمين. عزز من تلك القراءة بيان القائد العام نفسه، ثم تأكيد الجيش في بيان منفصل على الرغبة في احتواء شباب التيارات الدينية، وأن المسار السياسي الجديد لا مجال فيه لإقصاء أي تيار وطني.
وبمضُيّ الساعات في الرابع من يوليو تم الإفراج عن العاملين في القنوات الدينية، كما انقشع الغبار عن كثير من الأخبار غير المحققة، وتبين أن من تم القبض عليهم من قيادات الإخوان شخصيات معدودة، وأن الممنوعين من السفر كذلك تراوحت أعدادهم من 15 إلى 35 وليس 300 كما ذكرت الأنباء الطائشة الأوليّة.
****
خرج المُرشد العام للإخوان المسلمين يخطب في مريديه في اعتصام رابعة العدوية يوم الخامس من يوليو، وكان خطابُه عصبياً تصعيدياً، اندلعت بعده اشتباكات عنيفة دموية في القاهرة والإسكندرية وغيرها من المحافظات، وسقط العشرات من القتلى من المصريين مجدداً بعد أن توجهت مسيرات الإسلاميين ناحية التحرير وسيدي جابر، مما يوحي بأن خطاب المرشد كان إشارة بدء لموجة جديدة من التصعيد غير المحسوب.
في أعقاب ذلك التصعيد الإخواني، تزايدت الاعتقالات في صفوف القيادات الإخوانية، وكان اعتقال خيرت الشاطر نائب المرشد، ثم حازم صلاح أبو إسماعيل، مؤشراً مرة أخرى على سياسة الدولة في الفترة الحالية، حيث اقتصر تحريك ذراعها الأمني على مدى تصعيد الإخوان وعدم إبدائهم أي رغبة في التفاوض. وأزعم أن الذراع الأمني الآن يتحرك – في أغلب الأحوال - كرد فعل لا فاعل.
في ذات الوقت، تزايدت الهجمات الطائفية ضد كنائس الإخوة الأقباط في محافظات الصعيد وسيناء، وتصاعدت وتيرتها بشكل مرعب ومحزن، بينما تصاعدت أحداث العنف في سيناء والهجمات على مواقع للشرطة والقوات المسلحة.
امتزج ذلك كله بهتافات طائفية وتحريضية يخجل لها أي ضمير حي، كان يصدح بها قادة الإخوان قبل قواعدهم فوق منصة اعتصامهم. وبدلاً من أن يحرص الإخوان على النأي بأنفسهم عن وقائع العنف وخطابات التحريض تلك، وأخذ مسافة من أي شباب غاضب أو مجموعات تجنح إلى العنف وسفك الدماء، شاهدنا قادتهم وقد أخذتهم العزة بالإثم، يهددون بالمزيد من التصعيد، ويروّجون الأكاذيب والشائعات المُضحكة المتهافتة عن انقسامات داخل الجيش المصري، وكأن ما يحدث في سوريا هو المطلوب استنساخه.
****
في وسط هذا التصعيد والجو المشحون، وقعت مأساة الحرس الجمهوري، فجر الثامن من يوليو، والتي قتل فيها من المصريين أكثر من 60 منهم 4 من قوات الأمن، ولازالت الروايات ملتبسة حول الحادثة، ولا مجال للخوض في تفاصيلها في هذه السطور، رغم إدانتها مبدأيا واعتبارها نقطة سوداء أخرى في تاريخ الجيش المصري، بيد أن رد فعل الإخوان بعدها كان– للمرة الألف - تصعيدياً بشكل يستفز أي لبيب، فرغم ما حصدوه من خسائر، وما جلبوه على أتباعهم المساكين من مهالك ومصائب، لازالوا يوهمون المعتصمين أن مرسي سيعود، وأن المعركة ليست سوى معركة الإسلام ونصرته، وإن المظاهرات سلمية رغم ما شابها من مظاهر عنف واستعداد للعنف مؤكد.
...
لقد حرص الكثير من قادة جبهة الإنقاذ على التأكيد على أنه لامجال للحديث عن استئصال الإخوان المسلمين، وأن المسار السياسي الجديد لايمكن أن يبدأ بإقصاء أي فصيل، وأن محاسبة بعض قادة الإخوان والإسلاميين المتورطين في العنف أو التحريض عليه لابد أن تسري وفقاً للقانون، دون تعميم للعقاب، وأن القنوات الدينية لابد أن تعود لممارسة عملها. ورغم كل تلك الرسائل، أصر الإخوان على إنتاج خطابهم التصعيدي الذي يستخدم الدين لأهدافهم الحزبية. لكن ما لا يدركه الإسلاميون أنه بمُضيّ الوقت تبقى الأبواب مُشرعة لمزيد من الدماء، وسيناريوهات أكثر سواداً، لن تنفع مرسي ولن تعيده للكرسي، بل ستخصم البقية المتبقية من رصيد الجماعة أمام شارع معبأ بالفعل ضدها، ومستعد لتصديق كل ما يُقال عنها عن صِدق أو غير صِدق.
إننا نفهم جيداً للغاية، ما يشعر به الإخوان والإسلاميون، حتى ولو اختلفنا معهم في وجهات النظر، من إحساس الفقدان والضياع الذي سببه خسرانهم لكل شيء فجأة، لكن ما لا تدركه الجماعة أيضاً أنه بمضي الوقت، يصبح تورطها في العنف أمراً لا مفر منه، حتى ولو زعم قادتهم السِلمية، حدث ذلك بداية أمام مكتب الإرشاد، وتصاعد الأمر باشتباكات المنيل وبين السرايات وعبد المنعم رياض وسيدي جابر وغيرها. والمُلفت في تلك الاشتباكات أنها اشتباكات بين الجماعة ونفرٌ من الأهالي في تلك المناطق أو بعض التجمعات المعارضة، فالجماعة هنا ليست في اشتباك مع السلطة أو الشرطة، بل مع الشعب نفسه. وهذا ما يؤكد أن الوقت ليس في صالح الجماعة إلا أن توقفت عن التصعيد وعادت لقراءة متأنية للأخطاء التي آلت بها من «التمكين» إلى أن تصبح مُطاردة شعبياً.
ثمّة مسؤولية أخرى لا تقل أهمية تقع على عاتق الجماعة الوطنية، وكل مسؤول يريد لمصر أن تخرج من شبح تلك السيناريوهات الدامية، وأحسب أنه في غمرة الانفعالات التي سادت الإعلام خلال الأيام الأولى، كانت هناك العديد من الأصوات العاقلة التي تتزايد مع الوقت.
إنّ الخطاب الذي يلقي باللائمة على الإخوان في كل قضايا القتل والدماء منذ 25 يناير 2011 هو خطاب فلولي بامتياز، يبرأ الديكتاتور مبارك وداخليته، وطنطاوي وعسكره، وهو أحد تجليات محاولات الفلول الركوب مرة أخرى على انتفاضة شعبية حقيقية تلقائية، قامت بها جماهير الشعب المصري بتنوعاتها الطبقية والاجتماعية على حكم الإخوان. وكما أن تلك الانتفاضة حقيقية لا مراء فيها، فإن محاولات شيطنة فصيل بأكمله لازال لديه عشرات الآلاف من الأعضاء ومئات الآلاف من المتعاطفين، محاولات غير مُنصفة، ناهيك عن كونها عقيمة لا تستقرأ التاريخ، ولا تفهم دروسه، وتعيد إنتاج مظلوميات الإخوان التي يتغذون عليها ويتماسكون داخليا بفضلها.
إن مسؤولية الجماعة الوطنية لا تقل عن مسؤولية الإخوان أنفسهم، في أن تبذل ما في وسعها لمحاولات استيعاب شباب التيارات الإسلامية، والتأكيد على أنه لا تعميم للعقاب، ولا إقصاء لأحد، وإن روح التسامح يمكن لها أن تنتصر حتماً حينما تقر الجماعة بأخطائها وتعود للمشاركة في المسار السياسي بعد تقنين أوضاع الجماعة، والتوقف عن اللعب فوق القانون.
أكتبُ هذا المقال وأنا أعلم أنه في الغالب لن يجد الآذان الصاغية، رغم المحاولات الحثيثة التي ألممت بطرفٍ منها لإيصال فحواه بشكل أو بآخر لمن قد يستمع في الإخوان المسلمين.
وليقضي الله أمراً كان مفعولاً.