فى القرن الـ٢٠ كانت قضية البشرية الرئيسية هى الصراع مع الاستعمار. وفى الخمسينيات والستينيات، من نفس القرن، دخلت مصر على الخط، كرأس حربة فى ذلك الصراع. وكانت النتيجة أن تعاظم جيش مصر، حتى صار واحدا من أقوى الجيوش فى العالم. وزادت أهمية الدولة المصرية حتى صارت واحدة من أكثر الدول فاعلية فى عالمها. التحديات تفرض على الدول، كما تفرض على الأشخاص، استنهاض همتها. وإيقاظ خلايا مقاومتها وقوتها، بالضبط كما تستيقظ خلايا المناعة فى جسد الإنسان، حين يقتحم عليه هدوءه وسكينته فيروس، مثل فيروس الإنفلونزا. الشعوب والدول أيضا لها خلايا ممانعة ومقاومة. وقوة هذه الخلايا ترتبط ارتباطا وثيقا بتاريخ وحضارة هذه الشعوب. لذا حين تصدت مصر للاستعمار، أعطت هذا التحدى من روحها ومن تاريخها، وتحولت القاهرة إلى عاصمة رئيسية ترنو إليها قلوب قادة النضال ضد الاستعمار، من نيكروما فى غانا إلى أحمد بن بيلا فى الجزائر. ومن جيفارا فى أمريكا اللاتينية إلى نيلسون مانديلا فى جنوب إفريقيا.
اليوم اختلف صراع البشرية، من الصراع ضد الاستعمار إلى الصراع ضد الإرهاب. ومصر صارت مجبرة، على الدخول على خط هذا الصراع، بقوة الدفع الذاتى لا بقوة الموتور. الصراع مع الاستعمار خاضته مصر كدولة يساندها شعبها، لذا حين غيرت الدولة المصرية، فى السبعينيات، من سياستها، من الوقوف ضد الاستعمار إلى الوقوف معه. كانت النتيجة أن ترهلت الدولة ودب الضعف فى عروق شعبها. وتردى بها الحال، حتى صار التوريث هو سؤالها الرئيسى. اليوم اختلف الوضع، فمن يخوض الحرب على الإرهاب هو الشعب. والدولة مضطرة إلى اتباعه. وهذا مُعطى جديد تماما «بل ومُباغت أيضا» وسينقل الدولة المصرية نقلة هائلة إلى قدام.
بعد ثورة ٢٥ يناير تحالفت الدولة، بقيادة المجلس العسكرى، مع الإخوان وهى الجماعة التى تعمل مفرخة للإرهاب والعنف. ويغطى خطابها على أفعاله. ودول محترمة، روسيا مثلا، تحطها «وِش» فى قائمة الإرهاب. وهو التحالف الذى أوصلنا إلى النتيجة التى نعيشها اليوم. الشعب حين رأى بعينه ولمس بحواسه «وربما ببطنه» بؤس هذا التحالف، تحرك لرفضه وإيقافه. ولم يكن قدام الدولة من طريق سوى الالتحاق بشعبها، لتلعب دور رأس الحربة فى إنهاء ذلك التحالف بصيغته الحالية إلى صيغة أخرى ومختلفة.
ستظل الدولة المصرية، ربما لشهور، تحاول تحاشى دخول الحرب على الإرهاب. وستعتمد على سياسة التوائم فى التعامل معه «المادة الأولى من الإعلان الدستورى لم تخرج من سياق التواؤم مع الإرهاب ومحاولة إيجاد حلول وسطى بين الدولة وبينه». لا أعرف لماذا ذكرتنى هذه المادة برئيس الوزراء البريطانى، نيفل تشيمبرلين، حين عاد من مقابلة هتلر، ليبشر الشعب البريطانى والشعوب الأوروبية «بالسلام فى زماننا».. على الطرف الآخر رأى هتلر فى خطاب السلام الذى بشر به تشمبرلين، دليل ضعف وهوان، كما رأى فيه دليل على تآكل الإرادة السياسية. فالفاشى، بطبيعة التكوين، لا يرى من الأمور غير طرفيها. إما نصر وإما هزيمة. إما أنا وإما أنت.
والسؤال، لماذا تظل الدولة مصممة على حصر اللعب مع الإرهاب فى خط النص؟ ببساطة، لأنها لا تريد تغييرا حقيقيا فى بنيتها وهياكلها. الدول مثل البشر، تخاف من التغيير وتكرهه ولا تقبل عليه إلا مجبرة. لكن الدولة المصرية ستجد نفسها مجبرة على دخول الحرب على الإرهاب. وهى الحرب التى ستطور الجيش المصرى وسُتغير من عقيدته. وهذا سيستتبعه بالضرورة تطور الدولة المصرية وهيكلة مؤسساتها. وكلها مقدمات تفضى إلى نتيجة واحدة، أن تجرى مصر على طريق التعددية والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان. وهذا بدوره، هو ما سيحولها إلى دولة فاعلة ورئيسية فى عالمها.