مثل الرئيس مرسى حكم، بيبرس الثانى مصر عاما كاملا ووحيدا، لم يكن يشبه سميَّه بيبرس الأول مشغولا بقتال الصلبيين، ولكن كانت هناك الكثير من التشابه بينه وبين مرسى آخر مماليك العصر الحديث. كان السلطان المظفر ركن الدين بيبرس الجانكيير هو السلطان الثانى عشر، وكان رفاقه القدامى من المماليك، يشعرون أنه قد ابتلع لقمة أكبر من طاقته، كان هو الحلقة الأضعف بين المماليك المتصارعين. كانوا من القوة بحيث لم يستطع أحد أن يفرض إرادته على الآخر، لذلك اختاروه على أمل أن يركبوه جميها، فى اليوم الأول من سلطنته استولى على كل ما وجده فى الخزائن من ذهب وفضة، ولكن ما فيها لم يكن كافيا، خطر بباله أن يفرض المزيد من الضرائب، ولكن نائبه المحنك أخبره بأن مصر بلد روحها النيل، إذا وفا امتلأت البلاد بالغلال، وامتلأت الخزائن بالأموال، وإذ لم يف فقُل علينا السلام، ولكن النيل فى هذا العام لم يف بوعده، توقف ارتفاع المياه قبل أن يصل إلى قياسه المحدد، ظلت الأرض عطشى والبذور جافة والنيل عاص.
شحت الغلال وارتفعت الأسعار وخبأ التجار الأقوات، بدت ملامح المجاعة، وتشاءم الناس من وجه السلطان الجديد، ولكنه وجد فى تلك المصيبة فرصة سانحة، كانت مخازن القلعة مليئة بالغلال، وبدلا من أن يوزعها على الجوعى والمحتاجين، كما جرت العادة، أخذ يبيعها بأعلى الأسعار، وضجت الناس من الغلاء، ولم يكن أمامهم إلا السخرية يقاومون بها حنقهم وجوعهم، ساروا فى الشوارع وهم يغنون: «يا سلطان يا ركين، من وشك غاض النيل» انتشرت الأغنية، عبرت الشوارع والأزقة وصعدت إلى مسامع السلطان فى القلعة، كانوا يسخرون من اسمه ويحورونه من ركن الدين إلى ركين، أساء الحرافيش الأدب، ويجب أن يعاقَبوا، أمر حراسه فهجموا على الأسواق والمقاهى، ضربوا من فيها بالمقارع وجرّوا قسما كبيرا منهم إلى سجن العرقانة، ساد الرعب المدينة، وتوقف الغناء، هرع أهالى السجناء باكين إلى ساحة القلعة، يتوسلون للسلطان حتى يفرج عن أبنائهم، ولكن غضبه كان شديدا، لم يخف إلا بعد أن فرض على كل واحد من السجناء عشرين قطعة ذهبية ليفرج عنهم، ودفع الأهالى صاغرين، ومن لم يقدر أهله على الدفع، ظل ملقيًّا فى غياهب السجن لا يعرف مصيره سوى الله، وظفر السلطان بمبلغ جيد من الذهب.
ثم جاءت مشكلات أخرى من الشام، حيث كان يوجد السلطان السابق الناصر قلاوون، كان قد عزل نفسه بنفسه حين رأى تحكم كبار المماليك فيه، ولكن عندما ضاق الحال بقادة المماليك فى مصر، وعانوا من جشع السلطان، بدؤوا يراسلونه، لعله يأتى ويأتى الخير على يديه، ووقعت إحدى الرسائل فى يد السلطان فجُنّ من الغضب، وأمر بالقبض على كل من راسل وعرف وتواطأ، كانت فتنة هائلة لم يشهد المماليك مثلها، منذ أن قامت دولتهم، ألقى القبض على أكثر من ثلاثمئة من القادة ومقدمى الجند، قتلوا وضربوا وحلقت لحاهم وشواربهم وسيقوا إلى سجن الإسكندرية، ولم يكن هذا السجن إلا قبوًا هائلا قل أن يخرج منه أحد وهو حى.
ووصلت الأخبار السيئة إلى الشام، وعلى العكس من ذلك تقوى عزم السلطان قلاوون الابن، بدأ يقوم بزيارات لكل الولاة الذين يحكمون المدن الشامية، كانوا جميعا من تلاميذ أبيه قلاوون الأكبر، هو الذى اشتراهم وأعتقهم وحوّلهم إلى حكام وقادة، طلب منهم أن يسيروا معه إلى مصر، حيث الذهب والنساء والسلطة المطلقة، إغراء لا يستطيع أحد مقاومته، انضم إليه وإلى دمشق، ثم إلى حلب وحمص وصفد، جمعوا جيوشهم فى جيش واحد وبدؤوا فى المسير، وصلت الأنباء إلى السلطان المظفر فى مصر، أدرك أن الخطر هذه المرة أكبر من أن يعالجه بالسجن أو القيام بضربة مباغتة، كان لا بد من جمع الجيوش وإنفاق الذهب، كان الذهب الذى حلم به، والذى فعل المستحيل من أجل جمعه يوشك أن يتبدد من يده، نظر إلى المدينة الهاجعة تحت أعتاب القلعة، خائفة ومظلمة، كان واثقا أن سكانها يكرهونه ويتمنون هزيمته، وكان الرد الوحيد عليهم هو أن ينتصر، يؤكد لهم مدى قوته وسطوته، ثم يجعلهم بعد ذلك يدفعون الثمن، ولكن هذا كان متأخرا، تسلل معظم الأمراء والقادة، وهربوا إلى الشام.
أصيب السلطان بالذهول، لم يتصور أن يتخلى عنه الجميع وأن يغدو فجأة بلا جيش، لم يحدث هذا لسلطان من قبل، تطلع إلى أسوار القلعة الهشة التى لا تستطيع حمايته، والمدينة الضيقة التى لا يمكن أن تؤويه، قال له نائبه وقائد جيشه إنه ليس هناك من حل إلا أن تتنازل عن العرش وأن ترسل للناصر قلاوون تطلب منه العفو حتى يحفظ عليك حياتك، ويتركك تذهب إلى حيث تريد، حضر شيوخ المذاهب الأربعة، انهمكوا على الفور فى إعداد وثيقة التنازل، دون أن يأبه أحد بالنظر إلى السلطان المذهول، وما إن فرغوا منها حتى انصرفوا سريعا ليستعدوا لاستقبال السلطان الجديد، لم يكن هناك وقت للرثاء أو لتطييب الخواطر.
كان الليل ثقيلا، ووجد الناصر بيبرس أنه غير قادر على انتظار رد السلطان القادم، كان يجب أن ينجو مبكرا قبل أن تتحول القلعة إلى فخ، هبط إلى الحظائر وأخذ أجود ما فيها من خيول، ووضع عليها ما جمعه من ذهب، الصديق الباقى بعد أن تخلى عنه كل الأصدقاء، اتجه إلى الباب الخلفى للقلعة المطل على قرافة المقطم.
ولكن كان فى انتظاره العوام والحرافيش، الذين ضربهم بالمقارع وسجن أبناءهم وسلب أموالهم وباعهم الأقوات بثمن فاحش، كانوا يسدون طريقه بوجوههم الجائعة المغبرة، يصيحون به: لن تفلت منا يا وش النحس، تردد صدى أصواتهم فوق تلال المقطم المتجهمة، أدرك أنها النهاية، مد يده إلى الخرج الموجود على ظهر الجواد، لم يخرج غدارة أو سيفا، أمسك قبضة من قطع الذهب ونثرها فوق رؤوسهم، فى أول الأمر لم يفطنوا لما حدث، ظلوا يواصلون الاقتراب والتهديد، ألقى عليهم بالقبضة الثانية والثالثة حتى بدأ بريق الذهب يخطف بريق الصباح، تخلخلت حلقة الحصار من حوله، تركوه وأخذوا يدورون حول أنفسهم، باحثين عن مكان الذهب المتساقط، وظل هو يواصل نثر الذهب وقد انتابته حمى الحفاظ على حياته، انشغلوا عنه جميعا، تدافعوا ونثروا فى عيون بعضهم البعض الحصى والتراب، تصاعد غضبهم وبدؤوا فى العراك، واستطاع بيبرس أن يلوى عنان جواده وأن يعدو مبتعدا، كان قد أصبح مفلسا، ولكنه كان ما زال حيا، وهكذا اختفى عن أبصارهم ولم يسمع أحد عنه منذ ذلك الحين.