من قبل ثورة يوليو ١٩٥٢ .. وبعدها .. وحتى الأن .. ليس من باب التجاوز ان يُقال ان ما عاشه العالم العربي ظل محصوراً بين نوعين او إطارين من الشرعية ينتظران ثالثهما طبقاً لمقولة «ماكس فيبر».
عرف العالم العربي تجربة الشرعية الأبوية التقليدية .. قبلية أو عائلية .. وهي مازالت حاكمة حتى الآن في بعض اوطان الأمة ، تسمى نفسها ملكيات أو سلطنات أو مشيخات أو إمارات أوصافاً من هذا القبيل.
وعرف العالم العربي أيضاً تجربة شرعية الانتقال يبرز فيها دور الرجل الواحد زعيمًا شعبياً، او خلفاً له نادته الظروف من اقرانه أو من غيرهم.
وفي التجربة المصرية ـ وربما في غيرها ـ فإن تكرار دور الرجل الواحد ستة مرات لا يعني وجود وحدة في النسب .. او اتصال للسياق .. أو مصدر مستمر لذات الشرعية !
الرجل الأول:
سجل التاريخ أن «محمد نجيب» أول هؤلاء الرجال في تجربة الجمهورية المصرية وكان يمثل شرعية التغيير من الملكية الى الجمهورية ، ومواصفاته انه الرجل الذي لقي اجماع ضباط الجيش في انتخابات ناديهم «آخر ديسمبر ١٩٥١» ، وكانت تمهد له طلعة تقابل الناس بقسمات رجل ناضج ، متهلل بابتسامة تحمل رسالة طمأنينة تبشر بأن التغيير الذي هبت رياحه فجر ٢٣ يوليو ١٩٥٢ .. آمن ومعقول.
وفي ظروف ذلك التغيير فإن الرجل قام بدوره كاملا .. على ان المشكلة التي واجهته في النهاية ان اعتبارات التغيير وملابساته .. كانت مختلفة عن دواعي التغيير واحكامه ، وفيما بين هذا الاختلاف .. بين قدوم التغيير، وبين ضغط مطالبه .. وقع مأزق الصورة الأولى وكذلك رُفعت من مكانها دون فرصة لها تحدد هوية .. او تؤكد مرجعية .. أو تؤسس شرعية.
الرجل الثاني:
كان «جمال عبدالناصر» هو الرجل الذي يمثل دواعي التغيير ومطالبه ، ومعه يصح القول بأن الشرعية الثورية ليوليو بدأت .
وأرجح التقدير ان الشرعية الثورية ليوليو لم تكن نظرية معروفة أو خطة متكاملة ولعلها آانت اقرب إلى تغيير متجدد عن المشروع الوطني القومي الذي ينادي مصر في عصور ﻧﻬضتها .. وقد ناداها اكثر من مرة عبر القرون وحتى قبل ان تتحدد بوضوح تلك المعالم السياسية المتفق عليها لكيان وطني او رابطة قومية ـ او شريعة حقوق أساسية يحكمها دستور وقانون وغير ذلك من القيم التي طرحتها وعمقتها الثورات الكبرى في التاريخ الانساني .
ملمح هويته القومية .. يتصور انتماءه إلى أمة تفاعلت في محيطها عوامل الجغرافيا المتصلة، والتاريخ المتواصل، ومعهما عوامل الثقافة المستندة إلى لغة واحدة .. إلى جانب تأثير التشريع المعتمد لأآثر من اربعة عشر قرناً على مصدر رئيسي تمثله سلطة خلافة متماسكة .. او مبعثرة .. في شظايا تسمى نفسها دولاً أو امارات أو حتى خديويات.
وملمح هويته الإنسانية فهو مستقل منفتح لتعاون حر تتسع دوائره عربية .. إسلامية .. آسيوية .. وأفريقية ، وهذا التعاون حريص في آافة الأحوال ان يكون استقلاله موصوًلا بميثاق الأمم المتحدة ومبادئه.
والمرجعية في العمل الداخلي كانت خطط للتنمية «أساسها التصنيع والتعليم» .. وجهدا في تحقيق العدل الاجتماعي «يقوم في الزراعة على إعادة توزيع الأرض وتدعيم الملكية بالتعاون، وفي الصناعة على الملكية العامة كما كان الحال في معظم بلدان العالم المتقدم ، بالذات في أوروبا .. بعد الحرب العالمية الثانية» .. ويتزامل مع التنمية الشاملة طموح إلى المشاركة السياسية يبحث عن وسائل تمكن منها.
والمرجعية في المجال الخارجي كانت يده ممدودة إلى العالم القريب والبعيد من تأسيس حركة التحرر الآسيوي الافريقي في باندونج والقاهرة ، إلى تأسيس تجمع الدول غير المنحازة في «بلجراد ودلهي والقاهرة» ، إلى تأسيس منظمة الوحدة الافريقية من «الدار البيضاء وأديس أبابا» إلى القاهرة ، وذلك طريق طويل ومضن في طلب السلام مع العدل ، يصاحبه استعداد في أي وقت لحمل السلاح ورد للعدوان.
ما قاله «عبد الناصر» في خطاب «العدول عن التنحي» في ١٠ يونيو ١٩٦٧ أنه سيعود لصفوف الجماهير بعد إزالة العدوان وبداية ديمقراطية حقيقية في مصر يبدو أنه كان صادقاً فيه .. فكما قال الأستاذ «محمد حسنين هيكل» أنه يزعم انه يعرف كيف كان ترتيبه لما بعد إزالة آثار العدوان ، وباختصار .. على الأقل في هذه المناسبة .. فقد كان مصممًا على أنه بعد تحقيق هذا الهدف ومعه استكمال بناء السد العالي رغم ضغوط حرب الاستنزاف لابد ان تقوم في مصر شرعية من نوع مختلف ، وكان حسابه ان الشعب بموقفه في تحمل المسئولية والقبول بتبعات استمرار المقاومة ، اثبت ان طاقته تجاوزت شرعية الثورة ، وشرعية قيادتها معا. ومع انه اعتبر ذلك في جزء منه نجاحًا يحسب لها .. فإنه في نفس اللحظة ادرك ان دوره قارب ﻧﻬايته ، وان عليه بعد إزالة آثار العدوان ان ينسحب من الصورة ، تاركاً الأمة والتاريخ معًا لحركة التقدم الطبيعي .. وتاراكاً سجله الكامل لأجيال قادمة تحقق فيه وتدقق وتوازن وتحكم على تجربته في مجملها .. مبدأ وتنفيذًا ، فكراً وفعًلا ، آفاقاً وعصرًا .
الرجل الثالث:
عندما جاء «أنور السادات» على طريق «عبد الناصر» كما قال بنفسه فإنه ظل يواصل العمل داخل تلك الشرعية المؤقتة المرهونة بمهمة محددة هي إزالة آثار العدوان ، وقد تحمل انور السادات
مسئوليته في ظروف بالغة الصعوبة والحرج ، وكانت شرعية يوليو .. ما بقي من اصلها او ما اضيف اليها مؤقتا .. قاعدته ظهر يوم ٦ أكتوبر ١٩٧٣ حين اصدر قرار الحرب ، وعندما تحقق ذلك العبور للجسور، وتمكنت الجيوش العربية لمصر وسوريا .. يدعمها تحالف عربي ودولي واسع .. من احراز ذلك النجاح المشهود بعد ظهر يوم ٦ أكتوبر فإن شرعية يوليو .. ما بقي من الاصل وما اضيف إليه .. ادت مهمتها، بشهادة ما رآه وزير خارجية الولايات المتحدة «هنري كيسنجر» ان العرب احرزوا نصرًا استراتيجيًا يعطيهم حقا ان يطلبوا وان يحصلوا على انسحاب القوات الإسرائيلية بالكامل من كل الأرض العربية المحتلة بعد ٤ يونيو سنة ١٩٦٧، كما انه ليس امام إسرائيل غير ترتيب نفسها على هذه الحقيقة والانصياع لحكمها.
وقد مضى السادات يؤسس لـ «شرعية أكتوبر» الجديدة، برؤية مختلفة للهوية ، ومصدر مغاير للمرجعية ، فكانت الهوية في رؤيته مصرية وكانت المرجعية في تقديره توجهاً إلى نوع من الرأسمالية عرف باسم الانفتاح ، ثم جاءت بعد ذلك .. وهو منطق الاشياء .. نقلة في الساحة السياسية الداخلية من تنظيم واحد لما سمى تحالف قوى الشعب العامل .. إلى انشاء ثلاثة منابر مختلفة سميت يمينًا ويسارًا ووسطًا.
وفي نفس الوقت كانت مرجعية السياسة الخارجية للشرعية الجديدة .. ما رآه الرئيس «السادات» صحبة مع المتقدمين عن طريق علاقة خاصة بالولايات المتحدة الأمريكية .. تتبعها امكانية صلح مع إسرائيل ، يبدأ منفردًا اذا اقتضى الأمر، ويلحق به الآخرون حين يريدونرأو حين يقدرون !
حتى أصاب شرعية أكتوبر شرخ خطير يومي ١٨ و١٩ يناير ١٩٧٧، فيما عُرف بـ «مظاهرات الطعام» ، ذلك انه حين يعجز أي نظام عن اقناع شعبه بوسائل السياسة ، وهو صاحب المبادرة فيها ، وبوسائل الاعلام ، وهي رهن اشارته ، وبوسائل البوليس ، وهي تصدع بأمره ، ثم يضطر لاستدعاء القوات المسلحة في مواجهة جماهير تطالب بحقها في الخبز بعد تضحياتها بالدم ، فإن شرعية هذا النظام تصاب بضربة شديدة ، والراجح ان السادات ، رغم انه أطلق على المظاهرات وصف «انتفاضة حرامية» ، كان يملك من الذكاء ما جعله يستشعر الحقيقة في ضميره وان أنكرها على لسانه ، وقد فكر بكل جهده في ترميم شرعية عهده ، وتوصل الى انه يستطيع بوعد السلام أن يستعيد حلم الرخاء الذي إتحذ «الإنفتاح» سبيلاً لتحقيقه ، وكان ذلك في الغالب دافعه الى مبادرته الشهيرة بزيارة القدس بعد ثمانية أشهر من السنة نفسها ١٩٧٧، وأمله ان هذا الاختراق الصاروخي آفيل بأن يكسر آخر حاجز بينه وبين أميركا المتقدمة ، بما يضعه في حساباتها وسياساتها على قدم المساواة مع اسرائيل.
ومن سوء الحظ ان العرب الذين لم يتركوا للسادات غير خيار الحرب ، تركوه وحيداً ، في خيار السلام ، وكذلك استحكم المأزق .
ومن المفارقات المحزنة ان ذكرى تأسيس شرعية أكتوبر أصبحت سنة ١٩٨١ يومها الأخير .
ومع ذلك فإن أحداث ذلك «الخريف الغاضب» كما أسماه الأستاذ «هيكل» من زمن أنور السادات بما فيها تلك النهاية الحزينة لحياته ولشرعية أكتوبر، لا يصح أن تكون وحدها حساب تاريخه.
علينا جميعاً أن نتعامل مع قصة كل رجل كتاب كامل وليست فصًلا واحداً من كتاب ، حتى وان كان ذلك الفصل ذروة المأساة.
إن كان في العمر بقية .. غداً نتناول باقي الرجال.