الدم كثير ومؤلم، والأكثر إيلاما منه التسامح المفرط فى كلام الكثيرين ممن يرون فى أنفسهم قادة للرأى، حيث تكرر على ألسن الكثيرين منهم حديث عن عدم الإقصاء، على اعتبار أن الإخوان فصيل وطنى. وهذه بساطة يكتنفها النفاق فى أفضل الأحوال والجهل السياسى فى أسوئها. وأفضل دليل على عدم جدوى هذا التبسيط المخل أن الفصيل المسلح لم يصدقه ولم يلق سلاح ترويع سكان المدن، ولا السلاح الموجه إلى جيش مصر وأمنها الوطنى فى سيناء.
لا معنى لهذا الهذر فقد عزلنا رموز نظام مبارك لأنهم لصوص أموال ولصوص إرادة دون أن يكونوا قتلة، أما تسمية الجماعة بالفصيل الوطنى ففيه تدليس فاضح إذا ما عرّفنا الوطنية بمعكوسها الواضح «الخيانة»، حيث أثبتت ممارساتها منذ 11 فبراير 2011 ثم توجهات سنة فى الحكم المباشر هذه الخيانة، وإذا أخذنا معنى «الوطنية» كمفهوم سياسى يرتبط بالدولة الوطنية ذات الحدود الثابتة والمختلف عن مفهوم «القومية» ومفهوم «الأمة» ومفهوم «الأممية»، فكل جماعات ما يسمى الإسلام السياسى غير وطنية بهذا المعنى، لأن مشروعها هو «الأمة» أى إقامة خلافة إسلامية.
ومن الواضح أن المفرطين فى التسامح والميوعة لم يروا توزيع الأدوار منذ البداية لإجهاض وصول مرشح ثورى إلى سدة الرئاسة، ولابد أن نسمى بوضوح عبدالمنعم أبوالفتوح الذى كانت أصواته خصما مؤكدا من أصوات حمدين صباحى الذى تصالح معظم شباب الثورة على تسميته مرشحهم. وعندما ظهر السفور الغبى لأداء الجماعة غير الوطنية أطل أبوالفتوح ثانية وامتلأت الفضائيات بالمنشقين أو المستبعدين من صفوف الجماعة مثل كمال الهلباوى ومحمد حبيب، وكذلك بالأحزاب المختلفة تكتيكيا أو التى تعرضت للإقصاء مثل حزب النور. ورحبت الفضائيات التى بلا عقل بانتقاداتهم، ومن يحلل الخطاب والمواقف يكتشف أن الخلاف حول التكتيك لا الجوهر، كل الاعتراضات كانت على تغول الجماعة فى استعجالها واستئثارها وليس على النهج ذاته.
أى أن الفضائيات المتهمة بمعاداة الوهم المسمى «المشروع الإسلامى» هى التى تم استخدامها لفرض مصداقية أشخاص آخرين وفصائل أخرى لكى تصبح لدينا حمائم فى مواجهة الصقور يتبادلون الحكم كما فى إيران، ونعيش أسرى الفاشية الدينية، لكن الله الذى حمى مصر دائما نجاها هذه المرة بفضل فداحة الفشل وفجاجة الكفر بالوطن.
تلاحقت الوقائع سريعا حتى نسينا التفاصيل الدقيقة اللافتة، نسينا أن محمد مرسى قاوم أداء اليمين فى المحكمة الدستورية، على اعتبار أنه أقسم فى الميدان، وعندما قيل له إن القسم فى المحكمة ضرورة تفاوض من أجل ألا يبث على الهواء، وبعد ذلك استهدف المحكمة نفسها المنوط بها الفصل بين السلطات لتتحول الدولة إلى زريبة بيده قفلها. يفشل ما شاء له الفشل ويقتل المعترضين. مارست الجماعة القتل والاغتيال السياسى وهى فى الحكم، ومارسته وهى ترحل، وتأخر القبض على قياداتها حتى بعد أن تحصن القناصة بمكتب إرشادها وبعد تكرار جرائم إطلاق النار وبعد كل هذا العدد من الإرهابيين المضبوطين.
وبعد كل هذا وقفنا ـ باسم التسامح المفرط ـ على فوهة الهوة نفسها، وجعلنا من حزب النور رقماً فى ترتيبات المستقبل بعد أن وقف على الحياد رسميا ووقفت كوادره فى رابعة العدوية عمليا. وقد رأينا كيف أفسد الفرحة وأربك الأوراق حتى مواجهة الحرس الجمهورى صباح أمس فأعلن مشكورا انسحابه، ولابد أن يكون لهذا الانسحاب أثره فى مستقبل الثورة.
لقد جربنا ثورة الحلول الوسطى وكانت النتيجة وقوع مصر فى أيدى تنظيم إجرامى، وكان يكفى مشهد النار الخارجة من وكر الإرشاد، وكان يكفى ترويع حى المنيل بالرصاص العشوائى، ومشهد إلقاء الشابين من فوق السطح، لكى تعرف الولايات المتحدة حقيقة الثورة، لكنها لا تتعلم، ويجب ألا يعنينا هذا كثيرا، يكفى أننا تعلمنا، فثورة 30 يونيو تختلف عن 25 يناير بمصرية قرارها، ويجب ألا ترتهن إرادتنا للخارج مرة أخرى.