على مدار عامين ونصف كان دويّْ طلقات الرصاص الحي والخرطوش يجعل قلبي يرتجف رغم أنني عشت طوال هذه الفترة أسمع تلك الأصوات كلما أتنفس وكانت ردة الفعل كما هي في كل مرة فكنت أهرول ناحية صوت الرصاص والخرطوش أملاً في أن أكون سبباً في إنقاذ أياً من الضحايا، فقد كنت واحداً من هؤلاء المؤمنين بحرية التظاهر والإعتصام السلمي ومدافعاً عنه وداعماً مادياً ومعنوياً له .. من هؤلاء الذين لم يفوتهم تظاهرة ولا مسيرة سلمية ولا مليونية ولا إعتصام سلمي ولا فض إعتصامات بالقوة إلا وكنت حاضراً .. وشاهداً على كل المجازر التي حدثت منذ ثورة يناير وحتى يومنا هذا .. يعرفني كل شبرٍ في الميدان تماماً كما أعرفه .. إن مرت فترة طويلة من دون موجات ثورية تجدني في زيارة .. جالساً في منتصف الكعكة الحجرية .. نراجع ذكرياتنا سوياً .. إن نسيت حدثاً ذَكرني .. وإن غبت عنه فترة طويلة عاتبني .. أنا جزأً من طين كعكته وهو كل ما تشتهي لرؤيته عيني.
ما فعلته جماعة الإخوان على مدار عامٍ كامل والمجلس العسكري خلال عامٍ ونصف ومن قبلهم مبارك خلال أيام ثورة يناير لم يغير شيئاً من مبادئ ومشاعري تجاه تلك الحقوق والواجبات التي إلتزمت وقطعت بها على نفسي من أجل أن ينال كل أصحاب هذا الحق في التظاهر والإعتصام حقه .. إلا أن اليومين الماضيين كانا فارقين في حياتي .. فقد تبنيت حق إعتصام تيار الإسلام السياسي في رابعة العدوية من أجل رئيسهم ودافعت عن حقهم هذا أمام الجميع، رغم أني منتمي قلباً وقالباً للمعسكر الأخر الذي يرفضه بل وأكثر من ذلك كنت أحد هؤلاء الذين دعوا للتظاهر لرحيل الرئيس .. لأن مبادئي كمبادئ معظم شباب الثورة .. فمن حق أي فصيل ما يحق للفصيل الأخر .. فكما تعلمون كنا ندعمهم وندافع عن حقهم في الإعتصام والتظاهر في العباسية وغيرها وقت المجلس العسكري رغم أننا لا ناقة لنا فيها ولا جمل .. فمبادئنا لا تتجزأ.
بعد أن إنحازت القوات المسلحة للفصيل الذي يمثل معظم الشعب المصري وألقيَ بيان رحيل محمد مرسي أقلقني بشده غلق قنواتهم الفضائية دون حكم قضائي بشدة إلا أن أحد من المتبينيين لحرية الإعلام ومتمكن في قوانين الحريات الدولية بالحريات أطلعي على الميثاق الإعلامي للأمم المتحدة وتأكدت أن غلق المنابر الإعلامية التي تأجج للفتنة وتهدد الأمن القومي تغلق لفترة مؤقتة من دون حكم قضائي .. وما أقلقني أكثر أقلقني أيضاً العدد الهائل الذي ألقيَّ القبض عليه إلا أني تأكدت أن كلها كانت بأوامر ضبط قضائي .. هنا إعتقدت أن بقائهم في إعتصامهم مجرد وقتٍ بسيط سيمر بسلمية تامة بعد التفاوض على ضمانات وجودهم في الحياة السياسية في الفترة القادمة.
إلى أن ألقى محمد بديع الكلمة التي كان لها مفعول التغيير .. حيث في لحظات كان الهياج في الشارع في القاهرة والجيزة والإسكندرية ومحافظات أخرى .. فجأة ظهرت أسلحة هؤلاء في الشارع تقتل وتصيب المدنيين العزل والمتظاهرين السلميين من الفصيل الأخر في الشارع .. بل قد وصل الأمر إلى أن أهالي منطقة «المنيل» وقفوا حائلاً دون إقتحام هؤلاء لميدان التحرير بالأسلحة، فما كان من هؤلاء إلى إطلاق الرصاص الحي على الأهالي .. وما شاهده العالم أجمع في الإسكندرية فلم تشفع عندهم رحمة الدين ولا أخُوة الوطن ولا إنسانيتهم من إلقاء صغاراً من فوق أسطح العمارات من دون رحمة ولا شفقة ثم ذبحهم.
هذه المرة لا أعلم ما جرى لي وما حدث بداخلي من تغيرات في فترة قصيرة جداً من الزمن .. فلم تلفت إنتباهي أصوات طلقات رصاص القوات المسلحة من أمام الحرس الجمهوري على هؤلاء المعتصمين «الغير سليميين» .. ولم تهزني صور القتلى والمصابين !
ماذا فعل هؤلاء لكي يقتلوا إنسانيتي ومبادئي تجاه ما رأيته وسمعته ؟! .. هل المشاعر تتغير بهذه السرعة .. أم أن الصدمة في هؤلاء كانت كافية لتجعلني لا أتعاطف مع دمائهم التي تسيل ؟!
الذي يبدو وكأني متأكد منه .. أن فُجر هؤلاء في الخصام بات كافياً لقتل مشاعري تجاههم.
الشيء الوحيد الذي لن أتنازل عنه أنهم ليسوا سواءً .. هل يستوي المتظاهر السلمي والمتظاهر المسلح مثلا ؟