كنت أنوى أن أكتب اليوم مهنئًا زميلنا الصحفى والإعلامى المتميز أحمد المسلمانى على تعيينه مستشارًا إعلاميًّا لرئيس الجمهورية، فهو اختيار الرجل المناسب فى التوقيت والمكان المناسب، إلا أننى أول من أمس شاهدت المسلمانى فى المؤتمر الصحفى الذى عُقد بمناسبة إعادة صياغة بناء الدولة المصرية متحدثًا عن التشكيل الوزارى الجديد.
كل الفضائيات قد أشارت إلى أن البرادعى فى طريقه إلى قصر الاتحادية وأنه فى الثامنة مساء أول من أمس سيعلن رسميًّا عن تكليفه بالوزارة، وبعد أن ينتهى من اختيار الوزراء يؤدِّى معهم اليمين أمام الرئيس كما يقضى البروتوكول. كانت جريدة «التحرير» هى صاحبة هذا السبق وتوقَّعَته قبل خمسة أيام، ونشرته بعد أن صار حقيقة فى العدد الصادر أمس، أكثر من جريدة أخرى كان المانشيت الرئيسى لها أمس «البرادعى رئيسًا للوزراء».
السؤال الذى تَردَّد فى أول مؤتمر صحفى يعقده المسلمانى هو «لماذا تم استبعاد البرادعى فى اللحظات الأخيرة؟»، فلم يقدم إجابة شافية ولكن كان هناك كثير من التلاعب بالألفاظ.
ما الذى حدث فى الكواليس؟ وكيف تم التراجع عن القرار؟ هل بالصدفة كان البرادعى يسير مترجلًا بالقرب من قصر الاتحادية فاعتقد البعض أنه فى طريقه لتشكيل الوزارة، بينما الحقيقة أنه كان فى طريقة لشراء كوز ذرة مشوى، على ناصية شارع العروبة.
الأمر فى الحقيقة لم يكُن فى صالح الدولة التى نشهد ميلادها، ولعب المستشار الإعلامى للرئيس دور من يجمِّل أو يرمِّم الحقيقة، وخسرنا ضربة البداية فى تأسيس علاقة صادقة مع الإعلام، كنا قد تابعنا قبلها أكثر من قيادى فى حزب النور على الفضائيات معلنين احتجاجهم على اختيار البرادعى وأكدوا أن ردّ الفعل سوف يصل إلى حدود الانسحاب من الأمر برُمَّته.
حزب النور يعلم أنه فى غياب تامّ للإخوان عن التوافق الوطنى زاد سعرهم فى المعادلة الحالية، وهم يجيدون اللعب بأوراقهم السياسية المتاحة فى أيديهم، كان لهم تحفظ مُعلَن على البرادعى فى السابق، فهم يعتبرونه علمانيًّا بكل ما تحمل تلك الكلمة من ظلال سيئة فى الثقافة الشعبية المتداولة، وهو ما أسهم بقسط وافر نظام حسنى مبارك فى ترويجه عندما استشعر أن الخطر الحقيقى الذى يهزّ عرش الأسرة المباركية ويقضى تمامًا على ملف التوريث هو حضور البرادعى فى المشهد وسط حفاوة جماهيرية تَجلَّت عند استقباله قبل أربعة أعوام فى مطار القاهرة.
الناس كانت تتابع الفضائيات وتعلم كل التفاصيل وتدرك أن خبر اختيار البرادعى لم يكُن مجرد اجتهاد صحفى وأن غضب السلفيين قد وصل إلى الذروة. البرادعى هو أيقونة ثورة 25 يناير، ولا تصدقوا أن نظام مبارك تَحسَّب لأحد قدر ما تَخوَّف من البرادعى، مجرَّد ذكر اسمه يثير حفيظة كل من ارتبط بنظام مبارك، البرادعى ظلَّ طرفًا أصيلًا فى المعادلة، وفى كل المراحل التى تلت 25 يناير كان فى طليعة صفوف المعارضة، وبعد اعتلاء الجماعة سُدَّة الحكم فى مصر كان صاحب الصوت الأعمق والأصدق فى رفض استمرار فصيل الإخوان فى إدارة شؤون البلاد. هو الأقرب فكريًّا لحركة «تمرد»، وكان هو أيضًا أقوى مرشَّحيهم لرئاسة الوزراء، فهو يتمتع بقدر كبير من المرونة يتيح له التعاطى مع إيقاع الشباب، إلا أنه فى المعادلة السياسية يظلّ هناك دائمًا حسابات أخرى خارج النص.
مَن شهد مخاض استكمال أو عودة ثورة 25 يناير التى «أعادت مصر كاملة لينا» فى 30 يونيو يدرك أن الرجل لم يكُن يومًا يطمع فى منصب، وقبوله فى توقيت محدد موقع رئيس الوزراء كان سيعنى الكثير سياسيًّا فى العالم كله. مصر لا شك بها كفاءات عديدة ليس البرادعى فقط، إلا أن خطورة ما رأيناه تؤكِّد أن داخل دائرة صنع القرار فصيلًا لا يريد سوى أن يحقِّق مآربه، وهم متطرفون فى تحقيق أهدافهم بدعوى أنهم فقط من يحافظون على الهوية الإسلامية، لم يكُن خطأ حزب النور فى الاعتراض على شخص البرادعى، فهذه هى قواعد اللعبة الديمقراطية، ولكن التهديد بالانسحاب يُعَدّ خروجًا على قواعد الديمقراطية.
بداية العلاقة بين الرئاسة والإعلام ينبغى أن تُبنَى على الحقيقة لا التبرير أو التلاعب فى الكلمات، وتحويل حقيقة تكليف البرادعى برئاسة الوزارة إلى التشاوُر معه على رئاسة الوزراء، هى بالتأكيد سقطة على كل المستويات السياسية والإعلامية واللوجيستية. جسد مصر الذى أنهكه حكم الإخوان، ينتظر أن ينطلق إلى سماء الحرية، ونرجو أن لا يصبح «النور» ظلامًا!