مساء يوم الأربعاء الماضى، وبينما مصر كلها تزغرد وتغرد فرحًا فى شوارع وميادين البلاد من أدناها إلى أقصاها احتفالا بإعلان جيشنا الباسل أنه وضع توقيعه الرسمى، خلاص على الحكم النهائى البات الذى أصدره شعبه العظيم وقضى بإسقاط حكم عصابة الإجرام الفاشية السرية ودفن مشروعها التخريبى فورا وإلى الأبد، استوقفنى شاب وأنا فى خضم ضجيج مهرجان الفرح العارم، وبعد أن هنأنى الشاب بحرارة واحتضننى بقوة سألنى بلطف، وهو يبتسم ابتسامة ساحرة: يا ترى فى أى شىء ستكتب حضرتك الآن بعدما ذهبت جماعة الشر فى ستين داهية؟!
ثم أردف قائلا: لقد ألح على هذا السؤال نفسه فى فبراير 2011 بعدما سقط نظام مبارك وولده الذى كنت أنت أيضا تعارضه وتلهب قفاه بالنقد اللاذع، لكن سرعان ما أهداك حظ البلد السيئ شيطان «الجماعة» المدحورة ووفر لك ولأمثال حضرتك من الكتّاب والصحفيين والإعلاميين الشرفاء موضوعا يوميا للنضال بالكلمة.. طيب دلوقتى ماذا ستفعلون وفى أى شىء ستوجهون طاقة النقد التى تعودتم عليها؟ السؤال ده طبعا سيكون بلا معنى لو كنت حضرتك تعتقد أن قدرنا أن نتخلص من مصيبة لنقع فى بلوة مسيّحة أخرى.. هكذا قال الشاب قبل أن يسكت منتظرا إجابتى، غير أننى بادلتُه صمتًا بصمت استمر وقتا أظنه طال نسبيا، ليس لأنه باغتنى بسؤال لم يرد على خاطرى ولا إجابة له عندى، وإنما لسبب عكسى تماما، إذ كانت مشكلة العبد لله أن هذا السؤال، أو بالأحرى شطره الأول، كان قد ألح علىَّ فعلا بعدما انتهت ثورة 25 يناير بسحق نظام حسنى مبارك ووقتها وبينما الأحلام الحلوة تحلق بنا فى أعلى سماوات التفاؤل، صارحت نفسى بحقيقة أننى لم أعِش منذ شببت من بواكير الصبا وحتى ضرب الشيب رأسى، يوما واحدا فى ظل نظام حكم رشيد وغير فاسد وتابع ومنحط، ويكفى أن عصر «المخلوع الأول» وولده استهلك أكثر من ثلثى سنين عمرى.. لهذا تساءلت بعد هذه الثورة المسروقة أن كنت سأعرف الكتابة من موقع مختلف عن موقع المعارض الشرس أم سأخفق فى كسر ومخالفة عادة طالت وبلغت حدود الإدمان.. غير أننى أيامها قررت أن الدنيا واسعة ورحبة وثرية جدا بما يوفر لأى كاتب مليون موضوع غير النقش بسن القلم على أقفية الحكام الظالمين المفسدين فى الأرض، ولكن من دون أن يتخلى طبعا عن الروح النقدية التى تمكنه من أداء واجب ملاحقة كل اعوجاج.
بيد أن جماعة الشر كما قال الشاب لم تمنحنى ولا منحت الوطن فرصة لرؤية أحلامنا الثورية وطموحاتنا المشروعة، وهى تهبط من فضاء الأمانى إلى أرض الواقع المعيش، فقد شرعت فورا فى سحق أجمل الأحلام وبدأت بسرعة فى تنفيذ عملية سطو مسلح على حاضرنا ومحاولة خطف مستقبلنا ومستقبل، وجاهدت وعربدت بشتى وسائل الإجرام لجرجرة المجتمع والدولة إلى مستنقع البؤس والتخلف والخراب الشامل، وهو ما أجبرنى على البقاء فى خندقى المعتاد محروما من الكتابة فى شىء جديد مختلف عما تعودت عليه من كفاح وجهاد بالقلم والكلام.
استحضرت كل هذا فى فترة الصمت التى تحملها الشاب بصبر، وأخيرا تكلمت وقلت له: أولا يا بنى، ليس قدرًا أبدًا أن نخرج من نقرة لنقع فى كارثة، بل بالعكس شعب بهذه القدرة الخرافية على البطولة واجتراح المعجزات لهو خليق وجدير بالتقدم والانتصار على الشر وبناء وطن أكثر جمالا وروعة يزهو بالحرية والعدالة وينعم بنور العلم.. وإذا كنت تسألنى إن كانت هزيمة العصابة الفاشية المجرمة سوف تضعنا على أول الطريق الطويل للنهوض والخلاص النهائى من البؤس والعدم وقلة القيمة، فإجابتى نعم، من دون شك ولا تردد.
أما ما يشغلك بشأن عبد الله الفقير، فإننى مستعد يا سيدى للكف عن الكتابة أصلا، لو عاندتنى العادة ولم أعرف السبيل إلى بستان الحياة الغنى بعدد لا يحصى من القضايا والموضوعات الصالحة للتناول بعيدا عن فيض بلاوى الفاشيين والمجرمين.. سأكتب من الغد فى الثقافة والفن، لكى أرتاح من الوسخ الذى لوث حياتنا كل هذه الحقب والسنين، خصوصا عام الجمر الأخير.
قلت للشاب هذا الكلام فى حَمِئَة الحماس والفرح، ولم أكن أعرف أننى مضطر إلى تأجيل تنفيذ الوعد أيامًا أو أسابيع قليلة، لأن المجرمين المدحورين يصرون على أن يختموا قائمة جرائمهم بحق الوطن والناس بجريمة أكثر خسة وأشد بشاعة.. جريمة الخيانة الفاجرة والاستقواء بالأجنبى على بنى وطنهم، فضلا عن إطلاق عصابات الترويع والقتل الجوالة فى شوارع وطرقات البلاد، ربما لئلا يخرجوا فقط من الحكم والسياسة، وإنما لكى يستأصلوا ويتم كنسهم نهائيا من حياتنا كلها.. ولا حول ولا قوة إلا بالله.