حين خرج الرئيس المعزول محمد محمد مرسي عيسى العياط على الناس كمرشح لجماعة باعت كل شيء في سبيل الكراسي، قدم حزمة وعود وتعهدات كلها ارتبطت بـ«رقبتي»، وحين خرجت الملايين تهدر في شوارع المحروسة «يسقط حكم المرشد»، كانت تريد هذه الرقبة تحديداً وقبل أي «مماحكات» أخرى.
1
المشهد ما بعد مرسي يبدو حتى الآن ضبابيًا للغاية.. فرح شعبي حقيقي برحيل «كابوس الجماعة» عن قمة السلطة، وحالة «فصام» أصابت «ولاد البنا»، جعلتهم يتراوحون في حديثهم بين «سنسحقكم بالدم» و«نحن ضحايا الانقلاب».
الضبابية هنا لا تعني أن تجلس في بيتك تتفرج عامًا آخر على وطن يتحول إلى «سلطة بلدي»، الضبابية هنا تعني أن تضع بنفسك «قائمة مشتريات»، دفعنا جميعًا ثمنها مقدمًا، منذ 2011 في ثورة 25 يناير، طيلة 18 يوماً في عهد المخلوع، ثم 18 شهراً في عهد جنرالات دولة العواجيز، وأخيراً 12 شهراً تحت حكم «الجماعة الربانية» التي أقسمت أن «تؤدب الشعب» وتسيطر على الدولة بالميليشيات، فيما ترفع المصاحف على أسنة الكلاشينكوف.
في الضباب نتلمس الطريق بهدوء، نعيد ترتيب الأولويات ونزن المنطق بمقياس المطالب.. في أوقات الفرح علينا ألا ننسى أن 18 يوماً من الأمل والرعب والدم لم تنجح في «فك شفرة» مطالب المواطنين تماماً، تحديداً لم يستطيعوا أن يغيروا الخريطة السياسية للأبد، ظلت هناك «ديناصورات» في كل اتجاه، أحزاب تتاجر في «الفياجرا»، وكيانات تسعى لـ«الكاميرات» وجماعات ترفع الطائفية نهجًا، وأخرى تخرج من الجحور بخطاب الدم والكراهية، ثم مؤسسات طالما رعت القمع وشجعته وجعلته «أسلوب دولة».
2
لدي طفلة اكتشفنا وجودها صدفة وسط اشتباكات محمد محمود الثانية، كانت أمها تجري بين طلقات الرصاص و«جدع يا باشا»، بينما الغاز يعميني عن رؤية زوجتي التي تاهت وسط الألم والشهداء والدم.. الآن طفلتي تجاوزت الشهور التسعة بأيام، وتنتظر مني قبل إتمام عامها الأول أن أجيب عن أسئلتها المرة، بداية من تحديد المسؤول عن مجازر جمعة الغضب والجمل (عهد مبارك) والعباسية وبورسعيد (عهد طنطاوي)، وحتى معارك الاتحادية والمقطم في عهد «الجماعة الربانية».
ستسألني بهدوء «ماذا حدث» بعد خروج الملايين للشوارع ورحيل رئيس أدمن الفشل ورفع راية الكذب والتدليس والشللية فوق الوطن كسحابة سوداء نحمد الله أنها مرت؟
3
جملة وحيدة فتحت أمامي بابًا للتفكير في الوضع بعد رحيل مرسي، الجملة نفسها من خطاب الفريق السيسي، قال الرجل: إن الجيش «سمع صوت الشعب» وعرف أنه «إنما ينادي قواته المسلحة لأداء دورها في الخدمة العامة وليس للعب دور سياسي».. حين سمعت هذه العبارة في أول الخطاب لم أهتم حقيقة بوجود مرسي (فهو بالنسبة لي انتهى منذ خروج الملايين) ولا بكواليس الخطاب (لأن السيف سبق أي تسريبات نصفها مفبرك).
جملة السيسي وضعت أمامي نقطة البدء: نعم لا أريد حكماً عسكرياً لهذا البلد، أيضاً لا أريد أن يحكمني شيخ جاهل ولا درويش طائفي ولا مهرج يأكل على كل الموائد ولا أرامل كرسي «جايين في أي مصلحة».
أيضاً لا أنتظر «رئيساً» محدداً لـ«أرفع راسي»، فالذي خلقه فوق الكتفين هو وحده الذي يستحق الانحناء قليلاً أمامه، أما أي مسؤول تنفيذي فهو في النهاية «شغال عندي»، والشعب الذي ينتظر «زعيمًا ملهمًا» يحدد له أسلوب حياته، ينتهي به الحال «خطيفة» بين يدي «زعيم عصابة».
وصلنا إلى 30 يونيو وما بعدها، لكننا مازلنا بحاجة لطرح أسئلة أكثر حدة في مواجهة واقع لا يزال مرتبكاً، ومشهد سوف يظل – بتقديري- مشوشاً لفترة قد تطول حتى 2015.
4
«المطالب الفئوية» التي يحملها العبد لله لنفسه بسيطة، لدينا شعب كامل خرج من صمته في 25 يناير، واستخدم «قواته» لتنفيذ إرادته «طوعًا أو كرهًا»، على رقبة ديكتاتور عجوز في 2011، وعلى رقبة درويش فاشي في 2013.
هذا الشعب لم يخرج فقط ليقول لمرسي وجماعته «اطلعوا بره»، بل خرج ليقول لبهلوانات المعارضة «كفاية عك».. فحين خرجت «تمرد» من رحم الغيب، كانت الشارة في يد الناس، أكثر من 22 مليون شخص أعلنوا بالتوقيع الرسمي خروجاً مدوياً على الفشل والتدليس ونموذج «قندهار»، 22 مليون مواطن قرروا أن «كل السلطة للشعب»، هؤلاء لن يرضوا أبداً بحلول من محلات مبارك أو دكاكين الشاطر، لن يصمتوا لأن «عجلة الإنتاج هاتفسي»، ولن يرهبهم «جعير» مجموعات الإرهاب في ربوع مصر.. هؤلاء لن يوقعوا «على بياض» لمن يحكم، هؤلاء لن ترهبهم دبابة يعرفون قبل غيرهم أنهم «استدعوها بالأمر الشعبي»، ولن تغريهم «شطحات» جماعات الدم.. هؤلاء يا عزيزي القادم أياً كنت لديهم «أوامر»، وعليك تنفيذها «طوعًا» بالقرارات السريعة أو «كرهًا» بالميادين.
5
لا أتصور في بيان السيسي وخارطة طريقه أن يتم تجميد «دستور مرسي» بشكل مؤقت فقط، وأن يتم تشكيل لجنة لـ«ترقيع» دستور مضحك، قام بالأساس على فكرة تمكين جماعة من رقبة شعب كامل.
في مصر التي نزفت دماءً طاهرة ولا تزال، يحتاج المواطن إلى دستور يقوم على فلسفة مختلفة عن أفكار «الصندوق الأسود».. نحتاج دستورًا يقرر صدقاً وقولاً بطلان أي تشريعات تخالف مواثيق حقوق الإنسان العالمية، وترفع عن كاهل المواطن أعباء «دولة الجباية».. نحتاج دستوراً يقرر أن «كل من يحمل سلاحًا نظاميًا، يجب أن يخضع بشكل كامل لمدني منتخب».. نحتاج دستوراً يرى أن مصر جزء من هذا العالم وليست ملحقة بالعصور الوسطى أو أمجاد يا عرب أمجاد.
شخصياً أحتاج في دستور بلادي لمواد واضحة تجرم الكراهية والعنصرية والتكفير.. أحتاج في ديباجة دستور مصر إلى حقوق لا تكبل بطريقة الغرياني وسرور «الإحالة إلى القانون»، والتزامات من الدولة لا تصبح منحاً ولا يتم القفز عليها تحت دعاوى بلهاء تعتقد أن المصريين إما «كفرة» أو «عملاء».
لا أريد ترقيعًا لدستور «عيال البنا»، أريد أن أقرأ دستوري وأنا مبتسم، أن يكون مرجعاً في شروط تنفيذ التعاقد بين أي مسؤول وأي مواطن.. دستور لا يجعلني رهينة في يد «شيوخ الطوائف» ولا «خطيفة» لصالح البيادة.. دستور يقول لي ببساطة إن الدولة لن تفتش في نفوس الخلق بحثاً عن «مصيبة» مفترضة.. الدستور الذي أريده مظلة تقيني تقلبات السياسة ومزاجية الحكام وعُقد النقص وشيوخ الطوائف.. أريد مظلة تحمي حرياتي وكرامتي وتلزم جهاز الدولة بأن يسير خلفي لا أمامي.. أريد دستوراً أحترمه لأنني شاركت فيه، وليس قيداً أمزقه بالميادين.
6
«عايزين صحافة حرة»، كان هذا هو الهتاف الذي احتضنته تسع عشرة درجة سلم رخامية على بوابة نقابة الصحفيين.. على هذه السلالم تعلمت أول درس صحفي/ سياسي في حياتي: «المهنة التي تشحذ قوتها، تبيع لحم أبنائها في الشوارع طوعاً أو كرها».
في عهد مبارك كما في عهد مرسي، تحول الإعلام إلى «لوحة تنشين»، بالحق حيناً وبالباطل غالباً.. وكما صفوت الشريف (سمسار التزبيط الإعلامي المخابراتي)، كان «عيال البنا» يسرحون ببضاعة كاسدة على الفضائيات والصحف.. خلطة من الاتهامات الجاهزة (كاذبون/ محرضون/ مهولون/ لا يرون الإنجازات)، معها تهديدات علنية بغلق صحف ومطاردات فعلية لصحفيين، وصلت إلى اغتيال الصحفي الحسيني أبوضيف على أباب قصر الرئاسة في مجزرة الاتحادية.
الخلاف مع الميديا ليس وليد اللحظة، فمن قال سابقاً «ظط في مصر» لم يتطور حتى لو ارتدى «ملابس الفرنجة»، وابتسم بكآبة أمام الكاميرا وأشار للصحفيين بالكلاشينكوف قائلاً: «أنتم سحرة فرعون».
بعد 30 يونيو، لم يعد جائزاً أن تجلس في بيتك لتستمع لوابل من السباب البذيء يصدر من الشيخ «سبونج بوب»، وليس معقولاً أن تخرج في الشارع مطارداً بفتوى تهدر دمك من «العلامة البحبحاني».. 30 يونيو كانت انتفاضة أمل أخير في هذه الدولة.. انتفاضة من أجل «تنظيف» حقيقي للدولة، وللفضاء العام من الكراهية والتكفير والتخوين والشعوذة على الشاشات، من أجل هذا زحفنا إلى الاتحادية ومن أجله أيضاً لن نقبل بأقل من قوانين صارمة تمنع تحول الميديا إلى «بوق كراهية»، وتنهي هذا الزواج الحرام بين السماوات و«مولانا واكل ناسه».
يحتمل الفضاء العام بالتأكيد، ويحتاج أيضا، إلى قنوات دينية، فالدين كان ولايزال جزءًا من مشهد الحياة برمتها، وإنهاء وجود تلك القنوات عبث، سواء جاء الإنهاء مؤقتاً أو دائماً، بالمقابل فإن وجود «دكاكين القتل» على الشاشة أمر ليس فقط ضد الثورة بل ضد فكرة «الميديا» نفسها.
شخصياً أحتاج لتحرير «ريموت كنترول» البلد، أن تكون لديك خطوط واضحة تفصل بين العمل الإعلامي والجريمة المنظمة، وهذه مسؤولية الجماعة الصحفية نفسها، وليست بالتأكيد مسؤولية الجهاز الإداري للدولة.
«عايزين صحافة حرة»؟.. عليكم بالنقابة، حرروها من تدخل الدولة و«المنحة ياريس»، أيا كان هذا الريس.. طهروها من العجز والارتباك بتدريب جاد وحقيقي للصحفيين.. طوروها بنشاط نقابي حقيقي يجعل مبناها الشاهق في عبد الخالق ثروت «كعبة حماية أبناء صاحبة الجلالة».
النقابة يا عزيزي التي ارتوت بدماء الناس منذ أيام المخلوع حتى أيام العزول ليست «كوباية شاي وسيجارة».. النقابة يا سيدي «هايد بارك» لجمهور يشعر بنبضك، ومنصة حماية للحريات، ومؤسسة حقيقية تحمي وتدرب وتبني وتكون في أول الصفوف، لا تخيفها دبابة ولا يأسرها رئيس.. لا تحنيها «موجة ظلام» ولا تعشش فيها «طوابير النميمة».
7
«المحليات للشباب».. شعار بسيط كتبه الشباب أعلى كوبري فيصل قبل 30 يونيو بكثير.. كلمتان خفيفتان تعنيان تغييراً هائلاً في بنية الحياة السياسية المصرية.
في المحليات حين تجد جارك مسؤولاً عن توفير «خدمات الدولة»، ستعرف وقتها أن الذين صعدوا للسماء كانوا يعرفون الهدف، والذين بقوا على الأرض حراس الحلم، ليس في الميدان فقط (وهو على مرمى صرخة حق)، بل في المجال الحقيقي للاحتكاك بالبشر وتطوير أدوات حقيقية يمكنها أن تحمي مستقبل هذا البلد.
المحليات ليست البرلمان بتعقيداته.. المحليات هي كوب مياه نظيف، وكهرباء منتظمة.. المحليات تعني نظافة حقيقية لشوارع امتلأت بالعفن، وتدخلا فوريًّا لحماية الناس من التغول.
في الثورة كما في الحرب، لا أحد يدرك أهمية «مسؤول التموين» إلا الجندي الغلبان على الجبهة، هو وحدة ينتظر «بشارة أمل» بأنه مستهدف بالثورة وليس مجرد رقم في حشد مظاهرة أو ورقة ينغلق عليها صندوق الدنيا في الانتخابات.
في الثورة كما في الحرب، يعلق القادة النياشين بينما «الغلابة» يحمون الثغور بالدماء والسهر.. في الثورة كما في الحرب، كلما كان اتصالك بـ«الشارع»، ضمنت النصر، فمن يقف على ثغور الخدمات، هو وحده من سيحدد الطريق الذي تسير عليه هذه الدولة، وهو وحده الذي سيقرر أن الثورة «بشارة أمل» أم مجرد رقصة جديدة في كبارية سياسي تعرضه الشاشات.
8
في الثورة كما في الغرام، فعل مغامر يكسر القيود ويرغب في الأمل.. ولأن الشعب خرج بملايينه مرتين في أقل من 3 سنوات، الأولى ضد «استبداد جدو» والثانية ضد «فاشية مولانا»، كان على الجميع أن يسمع لـ«عشاق الأمل»، ويعرف أن هذا هو القانون وهذه هي الدولة أيضاً.
حين تكبر ابنتي فيروز، سأقول لها بفخر: أزحنا طاغية بعد قهر 30 عاماً، ولأجلك عيونك أنت تحديداً، أزحنا كابوساً كان يريد أن يحجب عنك نور الأمل.
بعد 30 يونيو، لم يعد مقبولاً أن تستمر أحزاب تحتكر السماوات وتتشاجر على عدد «الملائكة المؤيدين» لها في السياسة.. لم يعد مقبولاً أن تخرج من بيتك منتظراً «المطاوعة».. لم يعد مقبولاً أن تعيش حياتك باعتبارك «كافرًا إلى أن يثبت العكس»، لم نخرج بصدورنا العارية في 25 يناير ثم في 30 يونيو ليرسم لنا مجموعة من «الدراويش» صكوك غفران، أو يحجبوا عنا نور الله بدعاوى سخيفة.
عزيزتي فيروز: الله أجمل من تصورات «الدقن والجلابية» وأكبر من خطط «مرشد» أو تعويذة «شيخ» أو عويل «نائحات النفط».
في بلادي ينتظر «الغلابة» لقمة عيش كريمة، ويبحث الشباب عن بلد يعيدون بناءه على أعينهم.. في بلادي لا أحد يريد «عسكري مرور» يمنح الجنة بـ«فتاوى» ويفتح الجحيم من باب الاحتياط.
هذه الأحزاب الدينية مكانها المتحف لا أكثر، شيء ما في الذاكرة الجماعية للشعب، يتعلم منها أن الدين علاقة مع الدَّيان مباشرة، وأن نور الله أكبر من الأحزاب، ورحمته أوسع من مزايدات رخيصة لسماسرة الجنة والنار.
في مصر الثورة، نحتاج بشدة لدولة حاضنة للأمل، قابضة على مفاتيح التقدم.. نحتاج لدولة تخدم المواطن قبل أن تنظر في بطاقة هويته.. نحتاج لدولة تعرف أن حدودها تقف عند الحريات، وأن علاقة الناس بالسماء ليست مجالاً للعبث أو المتاجرة باسم رب العالمين.
عزيزتي فيروز: نور الله ليس سجينًا لدى المشايخ و«بوابي الآخرة».. والطريق إلى الجنة والنار مرهون بخطواتك الحرة.. ولأجل هذا تحديداً، تسرب الغاز إليك وأنتِ في رحم الغيب، ومن أجل خطواتك الحرة الواثقة، صعد أشرف من فينا إلى السماوات غاضبين.
انظري إلى خطواتك الحرة.. إنهم يبتسمون الآن.