فعلها المصريون مرة أخرى، فكانت ثورة على الثورة، ولم تكن الثورة الجديدة إلا رفضا لما آلت إليه الثورة القديمة قبلها بعامين وبعض زمن///، سقوطا ناضجا فى يد حركة الإخوان المسلمين. لم تنته ثورة يناير بمصر إلى أمام، ولكن أخذتها قرونا إلى الوراء بعد أن تحالفت نخبة وطنية وتقدمية مع جماعة رجعية، لأن فكرة تدمير ما سبق فازت على فكرة البناء عليه بإصلاح ما فسد، ووصل ما انقطع، وتحرير ما استبد. ثورة يوليو الجديدة جاءت بعد أن جرت مراجعات كثيرة، وجاء الندم ومن بعده الاعتذار، ومن بعد هذا وذاك جاء ما أشرنا إليه مسبقا بإدراك الحدود، وقوامها أن مشكلات شعبنا وأمتنا ودولتنا أعمق من طبيعة كل نظام سياسى، ومن الممكن أن نستبدل كل عام أو بضعة أعوام نظاما قوميا أو ليبراليا أو إسلاميا، ولكن أيا منها لن يغير من حقيقة أنه فى عام ٢٠١٢ وصل نمو السكان إلى أعلى نقطة وصلها منذ عام ١٩٩١ محققا ٣٢ مولودا فى كل ألف من السكان حتى بلغ عدد السكان المقيمين فى مصر ٨٤ مليونا، وهو ما يعنى زيادة قدرها ٥٠% على ما كنا عليه عام ١٩٩٠ الذى كان ٥٦ مليونا، ولما باتت خصوبة المرأة المصرية ٢،٩///// لكل امرأة، وأن معدل الإحلال سوف يكون ////٢،١ خلال العقدين القادمين، فمعنى ذلك وفق تقديرات دولية أن عدد سكان مصر سوف يصل إلى ١٠٠ مليون نسمة فى عام ٢٠٣٠، يعتمدون على العالم منذ عام ٢٠٠٧ فى استيراد الطاقة، مع حساسية فائقة للأسعار العالمية للغذاء الذى يستوردونه منذ زمن بعيد.
لا أريد إطفاء نور شمس صدحت فى صباح، ولا أن أخفى أقمارا أنارت ليلا مظلما، ولا أكسر مصباحا خرج منه ضياء يبدد أشباحا وعفاريت. ومن المؤكد أننى حاولت- كما فعل آخرون- إقناع نظام الجماعة بقبول الرغبة الشعبية بإجراء انتخابات مبكرة، كما أننى وبصدق بالغ وضعت أمام الجيل الجديد من قواتنا المسلحة الباسلة يوم ٢٣ يونيو المنصرم قائمة بالتحديات الهائلة، الداخلية والخارجية، أمام مصر والمنذرة بكارثة كبرى للبلاد ما لم يكن هناك فعل وعمل، وللحق فقد كانت هناك معرفة بما قلت وأكثر، وكان هناك الإعلان بخطأ من يظنون أن القوات المسلحة لن تستجيب، أو تقف ساكتة أمام أوامر الشعب المصرى، التى لا ترد، إننى أيضا أدرك تماما أن جيلنا عاش لحظات رائعة كهذه من قبل، ولكنه فشل فى انتهازها بعد ذلك، وذابت من أيدينا الفرصة كما يذوب مكعب الثلج بين الأصابع، وربما كانت هذه أشد قسوة مما كان علينا أن نفعله لمواجهة كوارث ومحن أخرى، لم نفقد فيها الفرصة فقط، وإنما ضاعت منا الأرض أحيانا كما جرى فى ١٩٥٦ و١٩٦٧، أو ضاع منا الزمن كما حدث بعد ثورة يناير.
هذه المرة علينا أن نمسك بالفرصة المتاحة بعد ثورة يوليو، التى اجتمع فيها الشعب حقا على الإطاحة بنظام بعون من قوته، وحماية من أبنائه فى القوات المسلحة. كانت هذه هى الحقيقة ومن يدعى بحدوث انقلاب عسكرى أو تجاوز للشرعية لا يرى ملايين الشعب ولا يعرف جوهر الحقيقة التى هى الاعتداء على مدنية وحداثة الدولة المصرية، ومحاولة وضعها فى غياهب جب من الترويع باسم الدين، والقتل باسم الشريعة، ولكن هذا موضوع ربما نعود له فيما بعد، وما يهمنا فى هذه اللحظة، وقد كتبت مرارا عن الإخفاق التاريخى، الذى تعرضت له الدولة المصرية الحديثة على مدى مائتى عام ماضية، أن نعمل ألا يكون هناك إخفاق آخر، بعد أن عرفت عيوننا نعمة الصفاء بعد عكارة التضليل الدينى، وتشوهات التفكير الراديكالى والاستئصالى بجميع أنواعه، ورغم أن المدى القصير أو الشهور الستة القادمة قد تكون محدودة فى عمر الزمن، إلا أن ما سوف يصدر عنها سوف يشكل الأساس الصلب للمستقبل العظيم، الذى آن أوانه. هنا سوف تصدر الأسس القانونية والدستورية للنظام، وهنا سوف توضع أساسات النظام الانتخابى، الذى أتضرع إلى الله أن يقبل بالإشراف الدولى حتى لا يكون يوم يصرخ فيه طرف مصرى بالتزوير، وهنا سوف تجرى عملية جراحية، لكى يقف الاقتصاد المصرى على قدميه، وهنا سوف يظهر وجه آخر لمصر ليس باعتبارها قائدة للتنظيم الدولى للإخوان المسلمين، أو لأنها قائدة العرب، أو فى المقدمة من أيام الربيع بزهوره اليانعة من شباب وفتوة، وإنما لأنها ببساطة دولة بناء، تسعى لتعويض ما فاتها من عمر، لكى تصل إلى ما تستحقه من مكانة فى عالم بات مفتقدا لمصر. هنا سوف توجد قيم جديدة للعمل، والتسامح، والقبول بالآخر، والديمقراطية غير الملوثة بحكمة المرشد أو بادعاءات الخصوصية.
إذا ما جرى فى المدى القصير ما وجب، فإن المدى المتوسط – من ثلاث إلى خمس سنوات- لن يكون أقل صعوبة أو أخف حملا، ولكنه سوف يكون مفهوما تماما، وممتعا أيضا، لأنه سوف يكون وقت العمل، واستقرار القيم. وقت العمل الذى فيه التعرف على حقيقتين: الأولى أن مساحة مصر تزيد على مليون كيلومتر مربع لا يستغل منها إلا ٧% فقط بينما ٩٣% ما زالت على حالها، التى كانت عليه آلاف السنين، لأننا كنا من الغباء بحيث لا نعرف كيفية استغلالها، أو كنا على غير استعداد لا للرحمة ولا لترك رحمة الله تنزل بالعباد حينما حرمنا من يقدر منا باستغلالها خوفا أن يكون من الأغنياء. انظر ما فعلت ٣٠ مدينة بالجغرافيا المصرية بنيت خلال العقود الثلاثة الماضية، واحلم بكيف يكون الحال إذا ما بنيت باستثمار مصرى وعربى وحتى أجنبى مائة مدينة أخرى تجمع ما بين الزراعة والصناعة والخدمات المحلية والعالمية، والثانية أن مصر دولة بحرية بامتياز، وأن ما جرى لها كدولة نهرية تعتمد على نهر النيل الواحد جعلها تبنى حضارة عندما كان عدد سكانها لا يزيد على ١٠ ملايين نسمة فى العصور الفرعونية، ولكنها وقد اقتربت من ١٠٠ مليون، وبات هناك من ينازعها على «حقوقها التاريخية»، فإن البحرين الأحمر والأبيض هما ملاذها، وعلى من لا يصدق أن يزور منطقة الخليج العربى، حيث لا زرع ولا ضرع ولا نهر؛ وإذا كان اللؤلؤ قد ساعد على وجود المجتمعات هناك، وكان البترول سببا فى غنى الدول، فإن البشر فى مصر فيهم من قدرة العمل والموهبة لكى تكون نفطا وذهبا ورزقا من كل نوع. الإنسان الحر الذى يرى زرقة البحر فى حدودها اللا نهائية يستطيع أن يحقق أضعاف ما حققه بنهر تخنقه الصحراء.
لدى طلب لأهل مصر ومن قاموا بثورتها أن يفعلوا شيئا فى أول المدى المتوسط أن نتقدم بالشكر الوافر والتقدير العميق لدول العالم، التى ساعدتنا، وأعطتنا المنح والمعونات، ولكننا بعد ذلك لا نريد من أحد شيئا إلا إذا جاء مستثمرا ومشاركا فى التنمية وصنع التقدم. إذا كنا نعنى حقا أننا نريد «الكرامة الإنسانية» فإن أول بنودها هو التخلص من المعونات الأجنبية، والأمريكية منها فى المقدمة. بعدها سوف نكون مستعدين لدخول المدى الطويل، الذى تمارس فيه مصر سيادتها قوية وعفية.