لا أملك وأنا أعايش الآن، وقت كتابة هذا المقال (مساء الأربعاء/ صباح الخميس) الفرحة العارمة التى يعيشها الشعب المصرى بعزل محمد مرسى، والترقب الحذر الذى أعقب بيان القوات المسلحة، والجدل المهم حول البقاء فى الميادين حتى تصحيح مسار الثورة أو تركها كما حدث فى 11 فبراير، ترف الحديث عن شأن ثقافى خالص. لكن أليست السياسة فى وجه من وجوهها العميقة شأنًا ثقافيًّا خالصًا؟ وهل يمكن حقًا الفصل الصارم بين الاثنين؟ فأنا من الجيل الذى تربى على ارتباط الشأن الثقافى بالشأن السياسى ارتباطًا وثيقًا منذ بدأت الكتابة فى ستينيات القرن الماضى. فلا ثقافة حقيقية، فى أى جزء من العالم وفى أى لغة من اللغات، دون رؤية قيمية وفكرية وأخلاقية، وبالتالى سياسية تتخلل كل جوانبها. هذا ما يمكننى الآن الجزم به بعد أن قضيت عمرًا فى التعرف على ثقافات الشعوب وآدابها. فالثقافة هى التى رادت مسيرة الإنسان العقلية والضميرية منذ صاغ الإنسان المصرى قبل أكثر من أربعة آلاف سنة، ما دعاه عالم المصريات الشهير جيمس هنرى بريستد بـ«فجر الضمير»، وهو عنوان كتابه الشهير، الذى يثبت فيه أن البشرية تدين بجل قيمها الضميرية والأخلاقية، التى كرستها الأديان السماوية فى ما بعد، لثقافة مصر القديمة.
الثقافة إذن بما ترسيه من قيم الضمير والعقل هى التى رادت مسيرة الإنسان، وهى التى بلورت ذاكرته التاريخية، وهى التى ألهمت كل مشروعاته الفكرية والسياسية، وكل أيديولوجياته المختلفة. لذلك أود التركيز فى هذا المقال على الدروس الثقافية لما يدور الآن فى مصر، وكيف تستطيع الثقافة أن تلعب دورًا فى تصحيح مسار الثورة التى أهدرها تآمر العسكر والإخوان عليها فى العامين المنصرمين. فلا شك أن كل ما عاشته مصر منذ الثلاثين من يونيو، بل منذ أن أبدع شباب حركة «تمرد» طريقتهم الجديدة والصارمة معًا فى رفض حكم محمد مرسى، مندوب مكتب إرشاد جماعة الإخوان «المظلمين» فى قصر الرئاسة، هو النتيجة الطبيعية لتراكمات تلك الثقافة عبر آلاف السنين، والتى أصبحت الآن جزءًا من الشفرة الجينية للشخصية المصرية. ولأن هذه الثقافة كما قلت هى التى بلورت الضمير البشرى، فإن تجذرها فى الشخصية المصرية أعمق من كل محاولات المتأسلمين والمتأسلفين القادمين برؤى وهابية متخلفة وغريبة على مصر لتغييرها. لذلك ليس من قبيل المصادفة بأى حال من الأحوال أن نجد أن مفجرى شرارة الثورة المصرية فى 25 يناير، ومفجرى شرارة موجتها الثانية فى 30 يونيو، هم من شباب مصر المتعلم الذى له حظ من الثقافة والمعرفة بأدوات العصر الحديث، وليسوا من سكان العشوائيات الأميين الذين تخوف الكثيرون من أن يفجروا ثورة جياع، أو حتى من المتأسلمين والمتأسلفين الذين صاغ الخطاب الوهابى الجامد أهم رواسى تفكيرهم ومشروعهم.
وليس من قبيل المصادفة أيضًا أن يكون فعل المثقفين الرافض للهجمة الإخوانية الظلامية على الثقافة، واعتصامهم الذى قارب الشهر فى مكتب وزير الثقافة الإخوانى لمنعه من «تحجيب» الثقافة أو حجبها، هو شرارة تلك الموجة الثانية من الثورة. فالثقافة بمعناها العميق، لا بمعناها الفنى والأدبى فحسب، هى التى خلقت هذا الوعى الفطرى لدى المصرى بأن عليه أن يصبر لأن الصبر شارة على التحضر، وبأن لصبره حدودًا فى نفس الوقت. وبأنه يعرف متى ينفجر فى طوفان بالغ التحضر، كما فى تجربة ثورة 25 يناير، وقد صبر المصريون على العسكر حتى ضاق صبرهم، فتآمر العسكر مع الإخوان ومع الأمريكان بعد الثورة على خلق بديل للنظام الذى ثار عليه المصريون، هو حكم الإخوان الذى كشف الشعب المصرى أنه لا يختلف كثيرًا عن حكم مبارك. وأنه أصبح الذخر الاستراتيجى لأمريكا وللعدو الصهيونى على السواء.
فقد نجح الإخوان فى أقل من عام فى تبديد ميراثهم التضليلى فى الواقع المصرى. ورفعوا بممارساتهم الغشاوة عن أعين من كان مخدوعًا فيهم، وأجهز محمد مرسى بنفسه على شرعيته حينما فسخ تعاقده الذى انتخب بمقتضاه مع الشعب المصرى. ليس فقط بالإعلان الدستورى المشؤوم والدستور الإخوانى المسلوق، لكن أساسًا بتسليمه مؤسسة الرئاسة التى انتخب لإدارتها من أجل مصر، إلى مكتب الإرشاد ليديرها من أجل صالح جماعة مثقلة بثارات تاريخية وأجندات دولية. فالشعب المصرى لم ينتخبه من أجل أن يسلم الحكم لمكتب الإرشاد، إنما من أجل أن يحقق كما وعد أهداف الثورة فى الكرامة، وتعنى عندى الاستقلال الوطنى قبل أى شىء، والحرية والعدالة الاجتماعية. وأثبت بجدارة أنه لا يحكم باسم الثورة بل باسم الثورة المضادة فى كل تجلياتها، وإلا لما استماتت السفيرة الأمريكية فى دفاعها الفج عنه وعن حكمه الفاشل.
لذلك أدرك الشعب بحدوسه التى رادتها حركة «تمرد» أن عليه أن ينقذ ثورته ممن سلبوها منه ويتاجرون بها وهم يعملون على هدم كل ما تمثله من قيم الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية. وأن يتجاوز بحشوده الرقم الذى حققه فى ثورة 25 يناير، عندما خرج فى انفجارة 30 يونيو بأكبر حشود عرفتها الإنسانية كما يجمع كل المراقبين الغربيين والمحايدين. ولم يحتج الأمر إلى 18 يومًا هذه المرة، إنما إلى أيام أقل حتى سقط محمد مرسى رغم عناده، وحرص أمريكا عليه. ولا بد من إدراك الدلالات الثقافية لتغير الإيقاع وحجم الحشود، وقد انعكس هذا التغير فى إيقاع الأحداث وفى النقلة الجذرية لما يمكن تسميته بسياسات الصورة.
فبدلا من الصورة المتجهمة والمتمرسة خلف التشكيلات السلطوية للمجلس العسكرى إبان الأيام الأخيرة من ثورة 25 يناير، هنا نحن نشهد تطورًا فى المشهد، قل فيه عدد العسكر، وزاد فيه عدد ممثلى المؤسسات الأخرى من دينية ومدنية، وظهر فيه بعض رموز العقل المصرى المدنى ورموز الشباب والمرأة. وهى كلها مؤشرات على أن الثورة تتعلم من أخطائها، وأن مسيرتها تتقدم. وأنها تعى أهمية ذاكرتها التاريخية القريبة، وأنه دون أن يحتل الشباب دورًا، بل ودورًا محوريًّا فى إدارة مرحلة ما بعد انفجارتها، فلن تتحقق أهدافها. لأن أهم الدروس الثقافية للثورة هى أن الشباب، وهم أغلبية الشعب المصرى الساحقة، هم صناع الثورة، ولا بد أن يكون لهم دور كبير فى إدارة مرحلتها الانتقالية. وأن علينا الحذر وإرهاف العقل النقدى فى تمحيص كل ما يطرح علينا من خطط للطريق، لأن الشيطان وهو هنا رديف الثورة المضادة يكمن فى التفاصيل، وأن لا نستسلم لفرح الإنجاز الكبير بعزل مرسى إلى حد تنويم ذاكرتنا التاريخية ونسيان مسؤولية العسكر عما وصلنا إليه. وهذا هو دور الثقافة والمثقفين فى إرهاف العقل والتحذير من مخاطر الانزلاق إلى رمال الثورة المضادة الناعمة. فهم أقدر فئات الشعب على التعلم من الثورة المصرية ومن تحضرها، وأقدرهم على حماية موجتها الثانية من أن تتحول إلى انقلاب عسكرى يعود بنا إلى الوراء من جديد.