نجحت الثورة تقريبًا فى كل المعارك التى دخلتها، وانتصرت على كل من عاداها، ووجهت سهامها نحوها، فى موجات ثلاث بدأت من ثورة يناير 2011 وانتهت بالموجة الثالثة منها فى 30 يونيو الماضى، وفيما بينهما كان صوت سميرة إبراهيم الأعلى وصوت معتصمى وزارة الثقافة الأقوى وصدى لا للمحاكمات العسكرية الأكبر، وغير ذلك من المعارك الكبيرة، التى خاضتها مجموعات من المصريين خلال العامين ونصف العام الماضيين، والشاهد الأهم هنا يظل إدراك، ووعى جمهور المصريين لما يدار فى الخفاء، ويجهز فى الغرف المغلقة، وإسقاطه بشرا ورفعه آخرين، احتضانه أفرادا ولفظه غيرهم، قبوله واطمئنانه لمجموعات وحركات وأحزاب واستنفاره وبغضه، وعدم ارتياحه لمثلهم.
ثبت بما لا يدع مجالا للشك أن المصريين يفهمونها بالإشارة هكذا، وهى معلقة فى الهواء، وأنه لا ينطلى عليهم التمثيل ولا التجميل ولا المراوغة المحسوبة والمدروسة والمتقنة، ثبت أيضا أنه لم يعد يمضى لأحد مهما كان شأنه على بياض، فقد احتفل بالمجلس العسكرى فى فبراير 2011 ثم خرج لإسقاطه، وأعطى أصواته لمرسى، ثم خرج لإزاحته وجماعته من السلطة، يجرب ويتحمل نتائج تجربته، ويصححها لو صارت أخطاؤها فوق الاحتمال.
موجة 30 يونيو العظيمة والضخمة والمؤثرة غاية التأثير فى مصر والمنطقة والعالم بإزاحة الإخوان، لها خصائص ومظاهر مختلفة عن الثورة الأم فى يناير، وعن الموجة الثانية بالقطع، ولكنها مع التدقيق امتدادا بسيطا وطبيعيا لتطور الأمور والأشياء والمواقف من يناير إلى الآن وصلت إلى حد أن الشعب كان يدعو نفسه بنفسه للخروج ويلح على ذلك، أخذ كل منهم على عاتقه مهمة طبع الاستمارات وتوزيعها وتجميعها موقعة، ثم البحث عن مكان تسليمها، إدراك الخطر المحدق بالكل كان شعورا جماعيا، ونتج عنه تصرف جماعى أيضا بالحشد تارة، ثم الخروج فى النهاية، مظاهر الاحتفال كانت سائدة من يوم الجمعة 28 يونيو، واستمرت وكأن شعورا عاما بضرورة الانتصار مترسخة فى النفوس، ومستقرة لا يشوبها شىء، اطمئنان أظنه من روح العزم قبل النزول والإصرار على الانتصار، والثقة فى الآخرين، وثق المصريون فى بعضهم من يوم الجمعة وعددهم قليل، ولكن كانت لديهم ثقة فى خروج إخوانهم الكثيف، وكأنهم قد قطعوا عهدا معهم.
ما تفعله الثورة المصرية الآن باستمرار موجاتها العظيمة هو أنها تزيح طبقة من إرث الماضى من فوق طبقة تطهر بتسارع وتصوب بوصلتها باقتدار، وتصحح مسارها بأيديها، تدرك أن آثار الماضى كبيرة ومتراكمة ومتعفنة، يلبد منها وبعضها يلدغ عند اللزوم، ويحاول بعضها أن ينفض غبار الماضى ليعود بلباس جديد، ولكن بروح وعقل العهد البائد فى 30 يونيو، وبإرادتها أبدت استعدادها للتصالح والتسامح عفويا، وبلا تعقيدات، لكنها لن تتسامح إذا ضيع المخطئون الفرصة أو أصروا على إثمهم، أعطى المصريون إشارة البدء فى برنامج العدالة الانتقالية، للمصارحة والمسامحة والمحاسبة، وعلى القائمين على أمور البلاد فى المرحلة القادمة أن يعوا ذلك تماما، وأن يلتقطوا طرف الخيط من المصريين، ويشرعوا فى تنفيذه، فلن نتقدم خطوة للأمام إلا بعد إعادة الحقوق، وتطبيق هذا البرنامج.