حينما حاصر شباب الإخوان المسلمين المحكمة الدستورية العُليا (3 /12 /2012)، كان القصد هو تدمير السُلطة القضائية، بعد فشلهم فى اختراقها والسيطرة عليها. وربما لم يدُر بعقولهم أن الأقدار السياسية ستدور دورة كاملة، لإقصائهم عن قمة السُلطة فى البلاد، وتسليمها إلى رئيس نفس المحكمة التى حاولوا غزوها، ثم حاولوا تدميرها.
وسيقف المؤرخون طويلاً أمام عمى الغرور الذى أصاب جماعة الإخوان المسلمين، طوال سنة كاملة، تعددت فيها التلميحات، ثم الإشارات، ثم التصريحات بخوف بقية المصريين على وطنهم، الذى هو أقدم أوطان الدنيا، وعلى دولتهم الحديثة التى هى الأقدم فى عوالمها العربية والأفريقية والإسلامية، وعلى ثقافتهم التى هى أغنى ثقافات العالم بحكم التراكم والتنوع والإبداع.
ولكن جماعة الإخوان المسلمين لم ترَ إلا نفسها دون بقية الخلق جميعاً، وعبدت ذاتها من دون الله. وأصبحت الجماعة عند أعضائها أهم من مصر، بل أهم من الإسلام، فليس هناك «مسلم حقيقى»، إلا إذا كان عضواً فى الجماعة. ولا يمكن لأى إنسان أن يكون عضواً، كامل العضوية فى الجماعة، إلا إذا تمت تنشئته على أيدى الجماعة ـ بعد قراءات، واختبارات، وتدريبات، وبعد إعطاء «البيعة»، لأحد حُكماء الجماعة، وترديد قسم السمع والطاعة. وفى هذه التنشئة، التى تستغرق عشر سنوات، على الأقل، وهى أهم سنوات العُمر، يذوب الفرد فى الجماعة تماماً، ويفقد ذاته المستقلة. فهو لا يُفكر ولا يتصرف إلا من خلال الجماعة، حتى فى أكثر الأمور خصوصية، مثل اختيار نوع التعليم أو العمل، أو الزواج.
وهكذا يتوحد عضو الجماعة مع الجماعة، ولا يُفكر إلا مثلما تُفكر الجماعة، ولا يتصرف إلا بالكيفية التى تريدها الجماعة، أو التى تأمر بها الجماعة. وشباب الجماعة هؤلاء، هم الذين حاصروا المحكمة الدستورية العُليا، ليمنعوا قُضاتها الأجلاء من دخول مبناها، لمُمارسة أعمالهم، والتى كان ضمنها إصدار حُكم، ظن الإخوان المسلمون أنه لن يكون فى صالحهم، فأرادوا تعطيله إلى أن يتم لهم استكمال سيطرتهم الكاملة على كل مقاليد الأمور فى مصر.
ولكن هكذا أيضاً، تشاء الأقدار أن تكون نفس هذه المحكمة، ونفس مبناها على كورنيش نيل المعادى، هى موقع لحظة انتقال السُلطة من حركة تمرد، عبر ميدان التحرير، وعبر القوات المُسلحة.
نعم إنها كانت سيمفونية مصرية بامتياز. لقد كانت الحركة الأولى فى تلك السيمفونية هى شباب «تمرد» الذين بدأوا جمع توقيعات لسحب الثقة من الرئيس الإخوانى د.محمد مرسى، والدعوة لانتخابات رئاسية مُبكرة. ورغم أن الذين بادروا بحركة «تمرد» كانوا شباباً مغمورين، لا يتعدون عشرين شاباً وشابة، إلا أن دعوتهم التى بدأت فى منتصف الربيع، لاقت قبولاً واسعاً من كل فئات الشعب المصرى. وفى غضون شهر واحد من إطلاق دعوة تمرد، كان عدد من وقّعوا على وثيقة المُبادرة لسحب الثقة قد تجاوز الخمسة عشر مليوناً، أى أكثر بمليون مواطن عن أولئك الذين صوتوا للدكتور محمد مرسى فى الجولة الأخيرة من الانتخابات الرئاسية فى يونيه 2012.
ومرة أخرى لم ترَ جماعة الإخوان المسلمين ما كان يراه بقية المصريين. بل ذهب بهم غرورهم إلى إطلاق حملة مُضادة، أطلقوا عليها اسم «تجرد». ورغم التشابه الشديد فى الحروف وفى المنطوق بين حملتى «تمرد» و«تجرد»، إلا أن حملة الإخوان «التجردية» لم تفلح، حتى فى اجتذاب رُبع عدد من وقّعوا لحملة تمرد. لقد كان السباق بين حملة «تمرد» و«تجرد» بمثابة مُحاكاة لانتخابات عامة بين المُناهضين للإخوان المسلمين، من ناحية، والإخوان المسلمين وأنصارهم، من ناحية أخرى.
ورغم البون الشاسع فى حجم الإقبال بين الحركتين، إلا أن حُكماء الإخوان المسلمين ظلوا على غرورهم وتجاهلهم وربما إنكارهم لما كان يحدث من حولهم. وهو ما دفع شباب «تمرد» للدعوة إلى مُظاهرات عامة يوم 30 يونيو 2013. وكان اختيار اليوم عبقرياً. فرغم أنه كان يوم أحد، وليس يوم جمعة، كما اعتاد المصريون فى مليونياتهم منذ 25 يناير 2011، إلا أن ذلك اليوم كان هو الذكرى السنوية الأولى، لاعتلاء د.محمد مرسى موقعه الرئاسى. أى أنه كان أمام المصريين جميعاً مدة معقولة (سنة كاملة) لتقييم أداء الرئيس الإخوانى، والطاقم الذى اختاره هو من أهله وعشيرته، ليُدير به شؤون البلاد والعباد، فى مصر المحروسة.
حتى حينما بدا فى اللحظات الأخيرة قبل منتصف ليل الإخوان، أن الرئيس محمد مرسى سيُخاطب أبناء الوطن جميعاً، وليس فقط أهله وعشيرته، فإنه مضى يُكرر ويُعيد أنه الرئيس الشرعى للبلاد، وأنه القائد الأعلى للقوات المسلحة.. ويقول لنا عُلماء النفس السياسى إن هذا الإلحاح فى تكرار لفظ «الشرعية» أكثر من ستين مرة خلال خطابه الذى استغرق ساعة ونصف والساعة، هو تعبير عن مكنون العقل الباطن الذى يُدرك عكس ما ينطق به، أو كما يذهب المأثور الشعبى «من على رأسه جرح، فإنه لا يكف عن تحسسه». أى أن محمد مرسى، إما أنه كان يعرف منذ البداية، أن انتخابه رئيساً لم يكن أمراً نزيهاً أو حُراً، أو حتى لو بدا كذلك، فإن شرعيته كانت قد تآكلت.
فى كل الأحوال، لقد طويت صفحة من كتاب ثورة مصر المجيدة. وذهب ثانى رئيس جمهورية مصرى فى أقل من ثلاث سنوات. وتولى المستشار عدلى منصور، رئيس المحكمة الدستورية العُليا، بصفة مؤقتة منصب رئيس الجمهورية. فلعله يبدأ مهامه الجديدة بتصحيح ما كان الإخوان قد ارتكبوه فى حق المحكمة الدستورية العُليا، وهى التعديلات الدستورية المعيبة، بتقليص عدد أعضائها للتخلص من المرأة الأولى والوحيدة، التى زاملتهم منصة تلك المحكمة المهيبة، وهى المستشارة تهانى الجبالى.
نُحيى شباب تمرد وجماهير شعبنا الذين استجابوا لهم، ونُحيى قواتنا المُسلحة ورجال شرطتنا، الذين انتصروا لشعبنا. ونُحيى محكمتنا الدستورية العتيدة وقضاءها الشامخ. وندعو الله أن يوفق الرئيس عدلى منصور فى موعده مع القدر، والله الموفق.
وعلى الله قصد السبيل.