كصوت الرعد.. كالمعجزة.. انطلق صوت المتحدث العسكرى يوم واحد يوليو يعلن ولاء الجيش لمصر.. لحظة سكون وخشوع كالوقوف أمام وجه الرب.. ثم استوعبنا ما تمنيناه.. وانطلق الفرح يجمعنا ويحشد دون إلحاح أو ترغيب.. دعوة فى رسالة مختصرة من أمانى صفوت.. تعالوا ع الكوربة نغنى فى الشارع ونفرح بنجاة مصر.. لم نردّ الرسالة برسالة إلا تسابقنا للوصول قبل الموعد.. أشعة الفرح انطلقت مع الأثير وغمرت كل القلوب.. نحن الكبار كنا أسرع فى الوصول من الشباب.. نحن كنا أكثر مرحا وصخبا، علّينا صوتنا بالغُنا، شبّعنا واجهات الكوربة العتيقة بالغنا والضحك وأعدنا إليها ما سرقوه منها.. الحياة.
سجل يا تاريخ.. احكى أكتر يا شوارع الكوربة.. هلِّلى يا مصر الجديدة، كل مصر ستصبح جديدة نقية.. تراب التحرير المروى بدماء الشهداء سيزهر زهرة الشهيد المميزة الخالدة.. وبواكى الكوربة ستتشامخ أكثر وتتباهى بأفراح وضحكات ليلة أول يوليو.. وبذكرياتنا الحلوة.. هنا تَمَشَّينا، أصحاب بملابس المدرسة وأحلامها، بعد كل امتحان نتزاحم على سلطة فواكه «كمال».. وعدنا نتمشى عائلة حاملين أطفالنا حتى تعلموا المشى والمرح والفرجة.. وهنا اشترينا أول جلاد وتيكيت لنكتب أسماءهم بدهشة فى خانة التلميذ والتلميذة.. وهنا انتظرنا جرس المدرسة لنعود بهم قبل أن يحملوهم إلى داخل ميكروباص الحضانة، مدعين إشفاقنا عليهم من اللفّ مسافات فى الحر.. والحقيقة لأنهم وحشونا.. من هنا التقطت أصابعهم الصغيرة هدايا عيد الأم.. وآيس كريم العصارى.. ومن هنا طرحة الفرح والورود البيضاء.. ولعب للأحفاد الذين قبل أن يتشربوا بجمال الكوربة خافوا وهربوا إلى بلاد غريبة، عبروا حدودا ومحيطات، لأن رياحا مسمومة غطت سماء الكوربة.. وهنا.. أصبحنا نتسلل بوجل كلما أوحشونا، نستعيد ضوء ضحكاتهم ونوادرهم وبراءتهم، ربما ينزاح ولو دقائق الظلام الجاثم علينا منذ عامين.. هنا ظلت الذكريات الحلوة ترفعنا على سحابات تبتعد بنا عن الافتقاد.. ندور ننظر شموخ البواكى حاملة الحكايات القديمة المحيية، فنتشدد.. ما دامت الحجارة صامدة فنحن كذلك.. ونعود وقلوبنا يغمرها سلام.. ونعود ننتظرهم باشتياق.. حتى من لم يرحلوا لكنهم هاجروا نفسيًّا.. اليوم سيعودون ما دمنا غنَّينا فى الكوربة.. وكمان قدرنا نرقص زى زمان.
يوم واحد يوليو عصرا، هرب الله من مدينة نصر، سدّ أذنيه وولَّى وجهه ناحية الكوربة.. فى طريقه إلى التحرير مارًّا ينظر إلى كل المصريين سكان شريط النيل ويطمئنهم.. سامع الصلاة فى قلوب كل البشر جاء هاربا من رابعة العدوية على سحابة سريعة.. جاء يشاركنا الابتهاج، رأيناه فى اجتماعنا بمحبة، ففردنا أجنحتنا وهللنا ننادى أحلى اسم فى الوجود.. «مصر».. قباب البازيليك أضاءت.. ومئذنة الجامع كبَّرَت.. وملائكة الفرح انتشرت بالقيثارات تهلل.. الله يسمع الأنين ويتألم، يسمع الدعاء ويستجيب.. لكنه يكره القوم الظالمين.. الله يغضب فيقوم، وعندما يقوم الله يتبدد أعداؤه ويهرب مبغضوه من أمام وجهه كالفئران.. الله بارك أرض مصر وشعبها.. ويسوع المسيح حاصل على الجنسية المصرية لأنه شرب من نيلها.
صوت بيان الجيش، وزغاريد طائراته التى حلَّقَت فى سماء الكوربة، وهتاف نادية زخارى النائبة المستقيلة من كذب الإخوان وجهلهم وسواد قلوبهم، هتافها يصدح من فوق منصة الفرح، «شدى حيلك يا بلد.. مصر النهاردة بتتولد».. الجموع ترفع أعلام مصر فتشكل سحابة واحدة عريضة ترفرف وتهلل.. ليلة لن تنساها الكوربة.. ليلة فرح وشكر لله تنفست فيها أحجار الكوربة حبا ووطنية.. ونقشت ذكرى جديدة للفرح الجماعى.. عادت مصر لنا.. وستعود الطيور المهاجرة.. سأصحب أحفادى إلى هنا وأحكى لهم عن ليلة ما غنينا ورقصنا وجددنا حبنا لمصر علنًا.. ثم سأحكى لهم عن يوم 3 يوليو 2013.. يوم استعدنا حياتنا وأمجادنا ولن نفرط فيها أبدًا.. وسأحكى لكم عن جواهر هذا اليوم ونجومه وشموسه، ما بين دار الحرس الجمهورى و«الاتحادية» والكوربة تانى.