يموج الشارع المصرى الآن بما تهتز له المشاعر وتفيض به الشجون، الجميع يتنفس الصعداء بعد لحظات عصيبة من حبس الأنفاس والترقب، ألقى المصريون بأجسادهم خلال الساعات القليلة الماضية فى الميادين رجالاً ونساء، مسلمين ومسيحيين، فى تحدٍ ليس ببعيد على هذا الشعب عندما يفيض به الكيل - واجهوا بشجاعة تهديدات جماعة الإخوان المسلمين ومن يساندهم من إرهابيين مسلحين من الخارج، تلك الجماعة التى سيطرت على الحكم بفعل الظروف عندما استولت على ثورة الشباب التى هبت فى الخامس والعشرين من يناير2011 وساعدهم عدم التخطيط المسبق للثورة. واصل الشباب الليل بالنهار فى شوارع مصر الصامدة، وشرفاتها المطلة على التاريخ برؤوس آبائهم المرفوعة للسماء بتمتماتهم الداعية بالخير للبلاد والنصر للأبناء، مسترجعين أيام شبابهم فى الماضى القريب عندما ثاروا على الإنجليز وطردوهم من البلاد، عندما أراد الشعب فاستجاب القدر، وهذه هى إرادة الشعب المصرى الآن تغازل التاريخ مرة أخرى.
جميعنا هنا فى مصر نتمنى النصر لهذه الإرادة الشعبية الرائعة، بعد أن أرهقنا نفسيا وعصبيا مع أحداث الثورة، فنحن سكان هذه الأرض الطيبة نهتز معها - مواطنين كنا أم مقيمين بها- فكلنا لا نملك إلا أن نتوحد معها، مع آلامها مع صمودها مع صراعها وأفراحها. والثورة المصرية التى بدأت منذ عامين ونصف هى الآن فى قمة تأججها، تتأرجح بنا وبالأمة وبالعالم أجمع، فها هى أمريكا تعيد حساباتها وتتخلى عن الإخوان- كعادتها- وها هى روسيا تعاضد الجيش المصرى وتعد بالتصدى لأى عدوان خارجى. الثورة المصرية من طراز خاص، تشكل موازين العالم، والصراع المصرى صراع من نوع خاص، كما هى مصر؛ بلد من نوع خاص، بلد الثقافات المتداخلة والمتناغمة، بلد تجتمع فيه الدموع مع الضحكات فى آن واحد، الجدية مع النكات، وهو ما يخفف من وطأة الأحداث.
أطلق الثائرون فى مصر مؤخراً حركة «تمرد» وصار فى ركبهم الجماهير الساحقة اعتراضاً على سياسات الإخوان.. «تمرد» ما أجمل هذه الكلمة وأروعها فوقعها على السمع يوحى بدقات الطبول إيذاناً بالانطلاق نحو الخلاص، كلمة نابعة حقاً من قلوب نضجت صبراً وتعباً وانتظاراً، ومن عقول عايشت وعوداً وخداعاً، شباب أصاب وأخفق ولم ييأس، تمرد على نتائج ثورته التى أتت بالإخوان فى سدة الحكم دون توقع، المصريون الآن فى أزهى عصورهم، يحاولون الخروج من الشرنقة للانطلاق نحو الحرية والتحليق فى سماء الديمقراطية.. تخبطوا فى الأشجار وفى النسور، تبعثروا.. تجمعوا تناحروا، تتخالط معهم الحرابى واليمام، يتعلمون، لا ييأسون، تجربة فريدة فى المنطقة، وتعد نموذجا، شعب طالما حارب الاستعمار بإرادة قوية ووحدة صف، وعندما حكم نفسه بنفسه، تقلب بين الأنظمة الاشتراكية والرأسمالية وتأرجح كثيراً ودفع ثمن تجارب حكامه، شعب حبسه الحكام داخل كهوف من الصمت، الصمت الخائف من البوح، ألسنة لجمت، أخرست بفعل الإفقار ومحاولات التجهيل، يتمرد الشعب الآن على أوضاعه الاقتصادية والاجتماعية المتردية، هبوا أيها المصريين لا خوف بعد الآن.
وسيحفر التاريخ الثورة المصرية على صخوره الزاهية بالنور والحياة، الأمة بأسرها تترقب ما سيصل إليه المصريون فى تمردهم، والشعب المصرى الذى صاحب الصبر لسنوات، الآن يثور على كل شىء، حتى على ما تمخضت عنه انتفاضته الأولى بلا خجل، نضج الشباب واشتد عوده فى عامين، فقد شاهدوا الموت بأعينهم وتعلموا من دروس الحياة السياسية الكثير، لم يصدقوا الوعود طالما هى آتية من نظام جاء إلى الحكم بالصدفة ولم يصدق قوله، قهروا الخوف، استخدموا كل الأساليب للتعبير عما بداخلهم من مناهضة لنظام الإخوان، غنوا ورقصوا فى الميادين أطلقوا النكات، نحتوا التماثيل لرموز الحكومة كوسيلة لنقدهم، تمردوا عبر شاشات التليفزيون، وعبر الإنترنت، قدموا برامج كوميدية شهد لها العالم، رفعت لهم المؤسسة العسكرية القبعة وأذعنت لمطالبهم المشروعة، وارتفع صوت القضاة وتجرأت مطالبهم، وفر وزراء حكومة الإخوان هلعاً الواحد تلو الآخر.
وهكذا يتمرد المصريون وهكذا سيصلون إلى أهدافهم مستخدمين وسائل شكلها فى وجدانهم تاريخهم الحافل بالحضارة والفن والإبداع والثقافات المتنوعة.
* مستشارة ودبلوماسية سعودية