الطيارون المصريون يحلقون بطائراتهم ينشرون الأمان والتأمين فوق بحر البشر الذى ملأ التحرير وجميع المناطق المحيطة به والشوارع المؤدية إليه فى المشهد الجلل الذى اعتبرته الصحافة العالمية أكبر تجمع بشرى فى تاريخ البشرية، وصيحات ونداءات الخلاص والحرية والكرامة تبدو لى كأنها على وشك أن تُحدث زلزالًا، وأن أصداءها وأصداء الصيحات فى جميع ميادين مصر تنتشر أصداؤه وتغطى صحاريها وأقصى أطرافها شمالا وجنوبا وشرقًا وغربًا والطيارون يصافحون بحر البشر بأعلام مصر التى يُمطرون بها الميادين من الطائرات.
يا الله..
المشهد العبقرى يعيد إلىَّ يومًا وفرحة وحدثًا من أهم أحداث عمرى، وقوات العدوان الثلاثى ترحل عن مدينتى بورسعيد بعد أن صارت مقاومة وانتصار أبنائها وفرق مقاومتها الشعبية حدثًا يثير إعجاب الدنيا، فمدينة صغيرة تنتصر على القوات البرية والبحرية والجوية لثلاثة جيوش. ويوم رحيل آخر القوات البريطانية من ميناء بورسعيد 23 ديسمبر 1956، والطائرات المصرية تعود لتحلق فى سماء المدينة وتمطرها بالأعلام.. كأنها نفس الموجة المزلزلة بالنصر القريب الذى يهتف له وتنادى عليه بحور البشر فى ميادين مصر.. أن يرحل ويجلو وينتهى العدوان عليهم.. لكن ما كان فى 1956 كان فرحة بجلاء قوات عدوان واحتلال أجنبى.. ومصر الآن يحكمها فصيل سياسى من أبنائها، ومهما كان قدر الخلاف والاختلاف مع كل ما ارتكب من أخطاء وخطايا ليختطف الثورة من شبابها ويحكم باسمها ويضلل مساراتها، كيف يستوى ويتقارب بهذا القدر الغضب الشعبى وأشواق الخلاص منه حتى يكاد يتطابق مع أفراح الخلاص من عدوان قوات احتلال أجنبية؟!
كدت أستهول المقارنة، لكن فى متتاليات ما يوالون ارتكابه من آثام وخطايا فى مواجهة هذا الانفجار الهائل من التعصب للشعب المصرى من جرائم يتضاءل إلى جانبها كثير من أهوال ما ارتكبوا منذ اختطاف الحكم.
وجدت المقارنة صحيحة، بل تكاد تصل بنا إلى أنك تستطيع أن تتفهم جرائم قوات احتلال، ولكن كيف تفهم أو تتقبل أو تتسامح أو يتسامح التاريخ تحت ادعاءات وانتماءات وطنية؟!
وابتداء، هل يوجد نظام يستطيع أن يدعى أى قدر من الانتماء للأرض والوطنية والحب لها وتقديم مصلحتها على كل مصلحة، وأولاها مصالحه الخاصة لا يجد عيبًا ولا جريمة فى الاحتماء والاستقواء بإهدار دماء أبناء الشعب الواحد والدعوة للنفير والوضوء والاستعداد للشهادة، بكذبة كبرى هى أن الإسلام فى خطر والشرعية مهددة؟! يريدون الدم واحتراب وصراع أبناء الوطن الواحد غطاء لمطامعهم واستعدادهم للقتال حتى آخر مصرى من أجل أن يظل حكم مصر الآن وإلى الأبد ملكًا خالصًا لهم!
هل يوجد نظام يدعى انتسابا لوطنية حقيقية وكرامة وطن يستنجد معاونوه بقوى أجنبية ليفرضوا بقاء رئىس خرجت عشرات الملايين من الشعب تعلن رفض حكمه وتسترد الولاية التى منحتها له، إذا كان هذا الخبر المستحيل على أى أصحاب انتماء وطنى أو أخلاقى صحيحًا، فهو فى مقدمة إثباتات الفقد الكامل للصلاحية والشرعية، أتحدث عما قيل إن مساعد رئىس الجمهورية للشؤون الخارجية -مع مراعاة المتغيرات المهمة التى لا بد ستحدث بمشيئة الله خلال الساعات القليلة الفاصلة بين الحق والباطل، الحق الذى يريده وخرج من أجله منذ 30 يونيو هذه الملايين من المصريين، والباطل المراد فرضه عليهم، وبين استمرار وبقاء رئىس وفرض ولايته- يظل أخطر ما فى مشهد طلب الاستعانة بتدخل قوات أجنبية. كيف تتقارب وتتفق جرائم الاحتلال الخارجى والاحتلال الداخلى والمقارنة والمقابلة بينهما صحيحة والآثار المدمرة التى تجنيها الشعوب على أيديهم، وإن كان حكم الجماعة حاول أن يتفوق بالديمقراطية المغسولة بدماء المصريين، ثم الديمقراطية المفروضة بقوات أجنبية! وليزداد السقوط الأخلاقى والإنسانى. يعودون لتكرار تاريخ طويل من الكذب وأحدث مثال ما أعلن مترجَمًا عن نص المكالمة بين الرئىس الأمريكى ود.مرسى والفارق بين النصين! النص الذى نشر مترجَمًا هنا- عما دار فى الحديث بين دعم للرئاسة وموقفها ومناهض لموقف الشعب والجيش- وبين ترجمة النص وفق وكالات أنباء عالمية- أكد فيها الرئىس الأمريكى أن الديمقراطية أكبر من أن تكون مجرد صندوق انتخابات، وأنه يجب احترام إرادة المصريين وحقهم فى تقرير مصيرهم، وليس المهم فى النص المكذوب والذى يخالف حقيقة ما كان فى المكالمة، فما يحدث فى مصر شأن يخص شعبها وإرادته وقراره الحر، ولكن ما جاء فى كذب الترجمة وتحريف المعانى يؤكد الإصرار على خداع الشعب والكذب عليه كشأن سلسال الأكاذيب وإخفاء الحقائق الذى لم يتوقف أبدًا.
الأدهى والأكثر مرارة وخطورة وما يحول الطين إلى دوامات من الخطايا تزيدهم غرقا، وهم يرتكبون -مع سبق الإصرار- جريمة تحويل المهمة المقدسة والأصيلة للجيش فى حماية المصريين من تكرار المؤامرات للجماعة ضد الثورة فى 25 يناير 2011، ومحاولة العبث والتشكيك فى نوايا وتوجهات ومقاصد البيان الوطنى المحترم الذى أصدرته القوات المسلحة لتأكيد أن إرادة الشعب المصرى فى حماية جيشهم، وأن إرادة الشعب لا بد وأن يحترمها جميع أطراف المعادلة السياسية، سواء الحكم أو المعارضة. وتطالب إرادة الشباب الذين كانوا وما زالوا وقود الثورة. وصلت الأمور التى تقدم مصلحة الجماعة على كل مصلحة، وتعلى بقاء الجماعة فى الحكم على بقاء ووجود مصر إلى أن هذا الموقف الوطنى الذى يمثل جزءًا من المهمات الأصيلة والمقدسة للجيش المصرى يستهدف انقلابا عسكريا على الديمقراطية والشرعية! أو فى الحقيقة وما يجب أن نفهمه عدم تعطيل النظام عن مهماته التى بدأها منذ اختطاف الثورة والحكم لتفكيك مفاصل هذا الوطن، وتمكين الجماعة وأذنابها وذيولها وأذرعها داخل مصر وخارجها لتحقيق مشروع الجماعة الأممى! لا تحدث الانقلابات إلا عندما تكون مع أنظمة تحترمها شعوبها ولا تثور عليها ولا تكون قد خرجت وتقدمت وملأت ملايين وشوارع جميع مدن مصر ومحافظاتها فى تجمعات وأعداد وأرقام أجمعت القياسات العالمية على أنها الأعظم فى تاريخ الثورات الإنسانية.
لا شرعية الآن إلا مع إنفاذ إرادة هذه الملايين من المصريين، فشرعية هذا النظام سقطت منذ الإعلان الدستورى فى نوفمبر 2012، سقطت الشرعية منذ سقوط 70 شهيدًا جديدًا بعد الانتخابات الرئاسية، سقطت الشرعية منذ دخل الثوار السجون وقُتلوا وعُذبوا فيها، سقطت الشرعية منذ سقط ستون شهيدًا فى مذبحتى يناير ومارس 2013. فى بورسعيد سقطت الشرعية عندما أُخفيت حقائق قضايا التخابر والتآمر على الثورة والثوار والشرطة واقتحام السجون والاستعانة بعناصر أجنبية -سقطعت عندما تم تعيين نائب عام «خاص» لا أريد أن أسرد قائمة ببقية ممارسات هذا النظام التى أنهت شرعيته، وكما كتبت من قبل فأول دواعى ودوافع 30 يونيو، لا لهدم شرعية مهدومة ومنهارة بالفعل، ولكن لبناء هذه الشرعية. وأخيرًا سقطت الشرعية بالكامل بخطاب يرفع التهديد السافر على الشعب والجيش ويعلن بلا خجل أنه إما الجماعة وإما الدم والعنف.. إذن إنقاذ مصر يعنى ضرورة أن تنفذ على الفور إرادة هذه البحور البشرية التى تملأ شوارع وميادين مصر، وإنهاء وجود هذا النظام ما دام الخيار قد أصبح بين وجوده أو غرق مصر فى الدم!