لم يكد الفاشل مبارك يدخل نادى المخلوعين، ولم تكد أيام الفترة الانتقالية السوداء التى أدارها المجلس العسكرى تتوالى محملة بالفوضى والتخبط، حتى انهالت علينا تعريفات الثائر الحق، الذى يعرف متى يثور ومتى يهدأ، لم يستأذن أحد صاحب الكلمات فى إذاعتها، لأنه كان فى رحاب الله منذ سنوات، ولا نعرف بالضبط السياق الذى تحدث من خلاله، المهم أن الهدف كان سياسيا واضحا، وهو أن يترك الذين شاركوا فى الثورة الأمانة فى أيدى الآخرين، وأن يسلّموا القط مفتاح الكرار، ولحسن الحظ لم يقتنع أحد بهذا المنطق.
لم تكن الثورة ردا على شخص بعينه، ولكنها كانت انعكاسا لفشل وإخفاق، ولذلك لا يمكن أن تتحدث عن ثورة أو ثائر، دون أن تتحدث عن فشل أو إخفاق استدعاه، ولا معنى للحديث عن الثائر الحق أو الفالصو دون أن تتكلم عن الفاشل الحق، هكذا يمكن أن تتزن المعادلة، وتتضح الصورة، دارت الأيام، وجاء الإخوان، واستمر الكلام عن الثائر الحق، فأصبح من الواجب أخيرا أن أحدثكم عن الفاشل الحق.
الفاشل الحق هو الذى وصل إلى منصبه بفضل الثورة وشبابها، فلما استوى على العرش، بعد أن كان فى غياهب الظلام، وبعد أن تم تهريبه من خلال جماعات اخترقت الأمن القومى المصرى (راجع حكم محكمة الإسماعيلية) انقلب على من سانده، ومنحه وأهله الشرعية والاعتراف، وابتلع كل وعوده وعهوده، واصطنع لنفسه طريقا ثابتا يخلو من المرونة، قتل السياسة، وأصاب الحياة بتصلب الشرايين، وتصور أنه يستطيع أن يرث الدولة، ويخصخصها لمصلحة جماعته وأنصاره.
الفاشل الحق هو الذى استكمل بكل جد واجتهاد خطة انهيار الدولة، بدلا من أن يقيل عثرتها، ويرأب صدعها، ويوحد شعبها، وهو الذى أضاع الحد الأدنى من التوافق، وبدأ معارك وهمية تحت شعار كاذب هو «التطهير»، بينما يعلم، وتعلم جماعته، أن الشعار الحقيقى هو «التمكين»، ثم ظن بعد كل ذلك أنه سيضحك على الناس والمعارضين، خائب المسعى والتدبير والتفكير.
الفاشل الحق هو الذى ألقى بكل أوراقه دفعة واحدة، أسكرته نشوة المنصب، لم يعتبر بمأساة من سبقه، كانت أمامه فرصة ذهبية أن يكون رئيسا لكل المصريين، فأثبت للجميع أن ولاء الجماعات المغلقة، لا يستوعب سوى أنصارها، كانت أمامه فرصة لكى يدمج تياره بأكمله فى حياة سياسية منفتحة، فحدث العكس تماما، أصبحت الذقون فى ناحية، والناس فى ناحية أخرى، لا يمكن أن يتحدث، ولا يعلن قراراته إلا أمامهم، وكأنها مصر الأخرى الموازية، فى مقابل مصر الحقيقية.
الفاشل الحق هو الذى لم يستطع أن يحقق إنجازا واحدا، ومع ذلك فقد وافق على أن يصدر كتابا يتحدث عن إنجازاته، وهو الذى لم يترك فرصة إلا وعبّر فيها عن تخبطه وسوء إدارته وعدم شفافية نظامه، وهو الذى تناقضت أقواله وأفعاله، وتناقضت أقواله وأقواله فى الخطاب الواحد، ورغم ذلك، لم يعتذر، ولم يعدّل خطته، وكيف له أن يتخذ قرارا بعيدا عن الذين أنفقوا عليه الملايين، وألزموه بالسمع والطاعة، فى المنشط والمكره؟ وليذهب الآخرون إلى الجحيم.
الفاشل الحقّ هو الذى لم يستطع أن يقنع أعداء الوطن وخصومه، لأنه لم يستطع أصلا أن يقنع أبناء شعبه، هو الذى لم يمتلك سياسة لا فى الخارج ولا فى الداخل سوى أن يتمسك بمقعده، وأن يزيد من السيطرة على الدولة المفككة، الفشل الحقيقى هو أن تجعل الناس تكره حياتها وثورتها واليوم الأغبر الذى ذهبت فيه إلى الصندوق، أن تجعل بعض الناس تترحم على الحاكم السابق المبتسم وراء القضبان، بل أن تترحم على كل الحكام السابقين، حتى وصلنا إلى عصر أحمس ورمسيس الثانى!
الفاشل الحق هو الذى أصر على أن يقسم المصريين إلى معسكرين، وأصر على أن يكون دستور الثورة بمثل هذه الثغرات الكارثية، وفتح الأبواب لقروض وودائع لا يعرف أحد مقابلها السياسى، ولا يفهم أحد كيف سنستفيد منها، هو الذى أخذ وطنه إلى حارة سد، فلا خطط ولا نهضة، ولا منهج ولا طريقة، ولا ضوء فى نهاية النفق، اللهم إلا فى نهاية أنفاق غزة، ليس هناك حتى إدراك للكارثة التى أفرزتها الإدارة بالثقة، وبالعشوائية، وبالبخت، وبالاستظراف، وبالخطابة، وبالضحك على العقول.
الفاشل الحق هو الذى لم يدرك أبدا أن أصعب مهمة أن تحكم بعد ثورة، لن يتركك أحد لتنفرد وتتحكم وتهمش، الصندوق الذى جئت به سيحاسبك أقسى الحساب، والبرنامج الذى لم يتحقق سيكون دليل إدانة، والانقلاب على الثورة سيخصم من رصيد الشرعية، أن تكون رجل جماعة لا يعنى بالضرورة أن تكون رجل دولة، الفارق كبير وعميق، وهل هناك فشل أكثر من أن لا تأخذ بثأر الشهداء (كل الشهداء) عجزا وضعفا؟
الفاشل الحق هو الذى أرادها مهزلة لا حوارا حقيقيا، جعلها لعبة كاذبة يقوم فيها هو وأنصاره بدور البطولة، ويلعب فيها الآخرون دور الكومبارس، فشل على فشل أن تفهم فقط ما تريد أن تفهمه، وأن تقلل من شأن وقدرة معارضيك، وأن تتوهم أنك تستطيع استخدام شماعة الثورة والفلول كلما أردت التغطية على تخبطك.
الفاشل الحق أصبح معروفا بعد شهور قليلة من تجربته، لم يكن بحاجة إلى أن يتآمر عليه أحد، لا فى الداخل ولا فى الخارج، فى قراراته واختياراته ما يكفى ويزيد لإفشال أى خطة أو فكرة أو معنى، لم يكن فى حاجة إلى نصيحة، لأنه لا يسمع إلا صوته، أو أصواتا مبرمجة سابقة التجهيز.
لا يمكن أبدا أن تلوم «الثائر الحق»، اللوم الحقيقى يقع على «الفاشل الحق»، فلولا وجوده ما تمرد أو ثار أو انفجر أحد، هذا هو أصل الموضوع، وأول القصيدة، ومفتتح المشكلة، التى تكرر نفسها بلا توقف.