أكتب هذا المقال قبل يوم واحد من المظاهرات والاحتجاجات المنتظرة فى 30 يونيو. هذه الاحتجاجات سوف تستمر لفترة. من يراهنون على أنها انعكاس لغضب عابر أو وقتى مخطئون. من ينتظرون أن تفرز ـ بسهولة ـ إزاحة كاملة لنظام الحكم القائم ووضعاً سياسياً أفضل، مفرطون فى التفاؤل. حركة الاحتجاج الحالية ليست انعكاساً لفشل سياسات الحكومة. لو كان الأمر كذلك لهان. القضية ليست سياسات خاطئة هنا أو هناك. الحركة الاحتجاجية فى مصر الآن هى انعكاس لصراع ضار على الدولة المصرية ذاتها. صراع على «امتلاك» الدولة. هذا صراع نتيجته غير معلومة ولن يُحسم فى أيام.
الصراع على الدولة المصرية انفجر فى يوم 25 يناير 2011. فى ذلك اليوم انطلقت عملية خطيرة للغاية: تغيير معادلة الحكم القائمة منذ عام 1952. تمثل جوهر المعادلة فى وجود نظام حكم سلطوى، يقوم على شبكة مصالح يرعاها الحزب الواحد وتستند إلى دعم القوات المسلحة. هذه المعادلة سقطت ولم تتمكن من الدفاع عن نفسها لأسباب كثيرة، أهمها أنها لم تستطع مجاراة الواقع الاجتماعى والاقتصادى. لم تستطع تلبية الرغبات المتصاعدة التى خلقتها عملية التنمية.
سقوط نظام سياسى دام ستين عاماً خلف فراغاً هائلاً. تحركت أقوى «العصبيات» لملء هذا الفراغ. التيار الدينى كان أقوى «عصبية» على الساحة. فاز بجميع الاستحقاقات الانتخابية. فرض وجوده بواقع حجمه العددى وقوة تنظيمه وتماسك أنصاره خلف هيكل قيادى. «العصبية» مفهوم أساسى لفهم جوهر السياسة فى المنطقة العربية. إنها فكرة صاغها عالم الاجتماع والمؤرخ الكبير «عبد الرحمن ابن خلدون» (1332-1406م) لكى يفسر قيام وانهيار الدول والممالك. يقول ابن خلدون: «الغاية التى تجرى بها العصبية هى المُلك، والمُلك إنما يحصل بالتغلُب، والتغلُب إنما يكون بالعصبية». يقصد ابن خلدون بالعصبية رابطة النسب والقرابة والدم. رأى ابن خلدون تاريخ الممالك العربية بوصفه صراعاً مستمراً بين «عصبيات»، يُكتب لواحدة منها الغلبة فتقيم دولتها إلى أن ينالها الانحلال والضعف، فتُهزم على يد أخرى.
ما زلنا نعيش زمن ابن خلدون. القبائل المعاصرة لم تعد تستند إلى علاقات النسب والدم فقط، وإنما صارت تعتمد أيضاً على تحشيد الأفراد خلف فكرة جامعة وتنظيم سياسى. هكذا يمكن أن نفهم كلام ابن خلدون فى زمننا. يقول المؤرخ الكبير: «العصبية تحمل الأفراد على التناصر والتعاضد فى المدافعة والحماية والمقاتلة». فى مصر هناك تنظيمان كبيران ينطبق عليهما هذا التوصيف: الإخوان المسلمون والقوات المسلحة (كعماد لمؤسسات الدولة).
ثبت خلال العام المنصرم أن الإخوان المسلمين ينظرون إلى السياسة من منظار «خلدونى». الديمقراطية – كما يفهمونها- هى خطوة لا غنى عنها للوصول إلى السلطة. مطلوبٌ أن يعقبها خطوات لترسيخ دعائم «المُلك العضوض» من خلال إخضاع «العصبيات» الأخرى. يقول ابن خلدون: «صاحب العصبية إذا بلغ رتبة طلب ما فوقها، فإذا وجد السبيل إلى التغلب والقهر لا يتركه». العصبية هى النقيض لفكرة الديمقراطية، التى تعنى أن وصول حزب ما للسلطة هو تفويض بإدارة شؤون الدولة، لا امتلاكها. وهو تفويض محدود بأجل زمنى وليس أبدياً.
الدولة المصرية، على ضعفها، أظهرت المقاومة. تجلى ذلك فى رفض مؤسسة القضاء للإعلان الدستورى، الذى أصدره الرئيس فى 22 نوفبر 2012. تضامنت قطاعات واسعة من المجتمع مع موقف القضاء، فكانت المظاهرات أمام الاتحادية فى ديسمبر الماضى. جرى أمرٌ آخر مدهش. لم يستطع الإخوان أن «يتمكنوا». فشلوا فى فرض إرادتهم. عجزوا عن السيطرة. انفلت الأمن وهو أولى مسؤوليات الحكم. نهم الإخوان للسلطة رافقه عجز مذهل عن ممارستها.
دعنا «نلعب على المكشوف». الإخوان يرون 30 يونيو جزءاً من مؤامرة «فلولية» للانقضاض على السلطة والانقلاب على «ثورة» يناير وصندوق الانتخاب الذى أتت به. هذا هو فحوى خطاب الرئيس يوم الأربعاء الماضى. الحقيقة أن هذا صحيح فى جزء منه، بغض النظر عن الجانب التآمرى. ما يحدث هو صراع «عصبيات» على الدولة المصرية. الغلبة فيه ستكون «للعصبية» الأقوى. المنطق الذى يحرك 30 يونيو هو استدعاء القوات المسلحة (عماد عصبية الدولة) لمواجهة «عصبية الإخوان»، التى ترفض فكرة الدولة المدنية الحديثة. يعنى ذلك الاستدعاء – بالفعل- الانقلاب على «مسار يناير» الذى يبدو أن قطاعاً واسعاً من المصريين يجرى مراجعة شاملة له. المشكلة أن احتمالات تحقق سيناريو «الاستدعاء» ليست كبيرة، وستكون مقرونة ـ إن تحققت ـ بانهيار كامل للوضع ومستقبل بالغ الاضطراب. خطورة ما يجرى أنه يعيد السياسة فى مصر إلى مربع «العصبيات»، ويبعدها عن فكرة الانتخابات. الإخوان مسؤولون عن هذه النتيجة، لأنهم خاضوا السياسة بمنطق القبيلة، ولكن الآخرين مسؤولون أيضاً، لأنهم عجزوا عن قراءة الصراع بهذه الصورة منذ وقت مبكر. فى النهاية، المصريون جميعاً سيدفعون ثمن فشل نخبتهم السياسية فى بناء منظومة حكم قابلة للاستمرار.