ما أعظم هذه الأمة! ما أروع هذا الشعب! ما أجمل هذا الوطن!
هل رأيتم، على امتداد التاريخ كله، شعبًا يثور مرتين، فى أقل من عامين ونصف العام، على الظلم والقهر والفساد والاستبداد والكذب والنفاق؟
بعد عام كامل من الفشل الكامل لجماعة «الإخوان» فى إدارة البلاد، وسعيها المحموم للاستحواذ والاستيلاء على مصر من برها إلى بحرها، والغباء المستحكم الذى أصاب قياداتها وصوّر لهم أنهم يستطيعون التهام هذا الوطن ثم شرب «كوب ماء» ليسهل لهم ابتلاعه، وتشبث مندوبهم الرئاسى بكرسى الحكم رغم ما بدا للمؤيدين قبل المعارضين أنه «واسع جدًّا» عليه، وبعد أن أعطى الشعبُ «مرسى وجماعتَه» الفرصة تلو الفرصة لتحقيق ولو جزءًا بسيطًا من أهداف الثورة، أو على الأقل الالتزام بالوعود التى قطعها هو بنفسه على نفسه للتصالح والتسامح والمشاركة بديلًا عن المغالبة، ها هو شعب مصر العظيم يخرج مرة أخرى، أمس، فى حشود فاقت تلك التى خرجت على «المخلوع مبارك»، وفى كل بقاع الوطن تقريبًا، ليعلنوها قوية مُزلزِلة لعرش «الطاغوت» الجديد المتمسح بالدين: ارحل.. ارحل.. ارحل. واحدة للرئيس، والثانية للجماعة الكاذبة المنافقة، والثالثة للجالس فى «مكتب الإرشاد» بالمقطم يرقب الحشود الهائلة فى ذهول وهو يتمتم: واحسرتاه! واجماعتاه!
يُيَمِّم «الرجل الكبير» فى الجماعة وجهه شطر سيد البيت الأبيض، ينتظر التعليمات والعون والمدد، لكن الصمت المريب الرهيب يزيده قلقًا ورعبًا، ويقفز إلى ذهنه سيناريو التخلِّى السريع عن رجل واشنطن الأول فى المنطقة «سابقًا»، وبعد ساعات من غروب شمس اليوم العظيم «28 يناير»، ويدرك أن اللحظة حانت، والنهاية أزفت، والمصير المحتوم آت لا ريب فيه. راهنَت أمريكا كثيرًا على تيارات الإسلام السياسى فى المنطقة، وأغلب الظنّ أنها فكرت فى استخدام تلك التيارات، واستغلال شهوة الحكم لديها بعد سنوات طوال من الانتظار، لتطبيق نظرية «Creative Chaos» (الفوضى الخلاقة) التى سبق ونادت بها وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كوندوليزا رايس، ومعها عدد كبير من عتاة اليمين المتطرف فى بلادها، على بلدان الشرق الأوسط، خدمة للمشروع الإسرائيلى-الأمريكى فى المنطقة، عبر إثارة فوضى عارمة تُدمِّر كل ما هو قائم من أشكال الدولة فى تلك البلدان، ثم إحلال نظم حكم موالية وتابعة تمامًا، ومساعدتها على البقاء عبر معونات ضخمة قد تكفل لها توفير حياة اجتماعية واقتصادية مريحة لشعوبها، شريطة أن تُنفِّذ تلك الأنظمة كل ما يُطلَب منها فى مقابل مجرَّد البقاء على كرسى الحكم. هذا السيناريو ربما يفسر لماذا سعت الإدارة الأمريكية الحالية إلى «تنصيب» جماعة الإخوان على حكم مصر، ولماذا دعمتها بكل قوة طوال الفترة التى أعقبت «ثورة يناير»، التى وجدت فيها واشنطن فرصة ذهبية سانحة لتحويل «الثورة» إلى «فوضى»، ثم الخروج منها بنظام حكم تابع ذليل لا يستمد قوته إلا من «السيد الأمريكى»، ولا يخجل من الاستقواء به على شعبه. خروج الشعب المصرى العظيم أمس، واليوم.. وغدًا.. وبعد غدٍ، حتى زوال هذا الحكم وسقوطه إلى الأبد بإذن الله، سيُسقِط «الرهان الأمريكى» على جماعة «الإخوان»، لكن هل تسقط نظرية «الفوضى الخلاقة»؟ هذه النظرية، التى تعتمد على إثارة الفتن الطائفية والمذهبية والعرقية فى المجتمعات، تعنى باختصار أنه عندما يصل مجتمع ما إلى أقصى درجات الفوضى المتمثلة فى العنف الهائل وإراقة الدماء، وإشاعة أكبر قدر ممكن من الخوف والهلع لدى الناس، فإنه يصبح من الممكن بناؤه من جديد بهوية جديدة تخدم مصالح الجميع (!).ماذا عن مصر هذه الأيام؟ وكيف نُجنِّب وطننا جميعًا، مسلمين ومسيحيين، سُنَّة وشيعة، السقوط بين براثن هذه الخطة الجهنمية الشيطانية التى ربما تُعَدّ لنا؟
الإجابة واضحة حاسمة قاطعة: على كل منّا أن يُقسِم على حرمة الدم المصرى، ويقاوم بكل قوة الساعين إلى العنف وإراقة الدماء، ولنتذكر جيدًا أن «الفتنة نائمة» فلنلعن جميعًا من يوقظها، أو ومن يحاول حتى إشاعتها.
فلنحمِ بأجسادنا كنائس مصر، قبل مساجدها، ولنثبت اليوم أننا بحقٍّ أبناء وطن واحد، وأن أصحاب وأنصار «الفوضى الخلاقة» لا مجال لهم بيننا