يظن الرئيس مرسي -وبعض الظن إثم- أن مقامه في الاتحادية هو منزل أنزله الله إياه، بينما هي الحرب والخديعة. وبالحرب والخديعة تولى وبالحرب والخديعة يرحل، هكذا هي اللعبة وقوانينها، دون أي بعد غيبي يحاول رجل العشيرة التمسح فيه.
فلم يهبط الوحي من السماء بتنصيبه رئيسًا ولم ينتخبه من انتخبه بعد عهد قطعه مع الله ألا ينتخب سواه. هو حصد نحو 13 مليون صوت، نصفهم ذهب لِصَفِّهِ نكاية في شفيق. وبطرح 6 ملايين مؤيد افتراضي للرئيس مرسي، منذ الجولة الأولى، فنحن نتحدث عن نحو 80 مليون مواطن مصري، لم يبايعوا مرسي أميرًا للمؤمنين لسبب أو لآخر.
ورغم وضوح المعادلة الحسابية إلا أن مرسي ومرشده وخيرته في حالة إنكار متقدم.. وفي ذيلهم آلاف الإسلاميين المساقين إلى إطلالتهم الأخيرة أمام شعب قرر أن يتمرد، بعدما تدرب على الثورة وملامحها ومشاهدها وقواعدها طوال عامين ونصف العام.
يتحدث الإخوان عن شرعية الصناديق، لمناصرة رجل يحفظون المسافة بينه وبين معارضيه بفتاوى التكفير، ويحرسون محيطه بالتفزيع والترهيب، ويحشدون لأجله حشودًا كأنها حمرٌ مستنفرة فرت من قسورة، تهتف باسمه عددًا من الشعارات رديئة الصياغة، غبية المضمون.
هم يفرضون حوله جدارًا من القداسة المتوهمة، يستدعون له فقه الطغاة الأمويين والجبابرة العباسيين.. ليحولوا بينه وبين ألسنة الناس وأفعالهم.. يُحوّلونه لـ«ولي أمر» وينقبون في حواشي الكتب عن حتمية السير في طاعته والاستظلال بعظمته.
فطن الإخوان مبكرًا لخواء الرجل، فبالغوا مديحًا في تصرفاته وتفاصيله السخيفة، عسى أن يبعث الله من نفخهم فيه رئيسًا «ملو هدومه».. يقول قائلهم «محمد مرسي خط أحمر».. «ده نبي من الأنبياء» .
وهكذا مرسي والعشيرة.. يظنون الاتحادية كرسي الله الذي جاء في آخر الزمان ليجلس عليه الإخوان عوضًا عما فات. يودون لو نقلوا قبر «البنا» إلى هناك كي يقر عينًا بما وصلت «الدعوة الربانية»، وفي الحكم في هذا الموضع: ملمح من شهوة الانتقام من شعب لم يناصرهم 80 عامًا وزيادة.
وحين ينهار الصنم الهش الذي طافوا حواليه ببخور الأكاذيب، ستنهار في القلوب.. بقايا فكرة «الإسلاميين بتوع ربنا».. سيتحولون في الوجدان الشعبي إلى حفنة «فشلة ونصابين».. وسيفصل الناس تلقائيًا بينهم وبين الإسلام.
سيضطرهم الناس إلى أضيق السبل، وسيتحول السمت الإسلامي إلى مدعاة اضطهاد.. كما الجاري الآن.. يرفض سائقون إقلالهم في الميكروباصات وعربات الأجرة، ويسخر منهم الواقفون في طوابير البنزين.. وتتسع شريحة مجتمعية ستعلق في رقابهم آثامًا ارتكبوها وأخرى ورثوها.. دون تفرقة.
وسيحتاج الإسلاميون سنين لا يعلمها إلا الله، كي يتعافوا من الصدمة، بعد تقديم الكثير من التنازلات التي ستجعل الفكرة «الإسلامية» في ذاتها طرحًا أخلاقيًا لا منظومة حركية.. سيبهتون جدًا وينهزمون جدًا.. ربما تكون نهاية الإسلام الحركي في مصر.
ستنزوي البذرة الأولى «الإخوان».. ومن خلفهم الطرح العلقم.
سينعزلون في مساجد، لن يقربها إلا هم. يتدارسون كتبهم «الدخيلة» ويبكون على ما بدر منهم، ويتفكرون كيف أضاعوا الفرصة وكيف تجبروا، وكيف تدار أمور الشعوب، وكيف يساس الناس.
يقول المثل المصري «لو روحت بلد بتعبد العجل.. حش وإديله».. وهو مثل يكشف قدرة المصري على التكيف مع أي وضع غير عقلاني (حتى لو كان مجافيًا له دينيًا).. مقابل «تمشية الأحوال» والعيش والاستمرار في الحياة.
لكن الصدام بين الدنيا والدنيا والدنيا والآخرة.. وصل ذروته.. لا نحن عشنا ولا هم تركونا نتركهم يتجهّزون للآخرة التي يزعمون أن كل فعلهم لأجلها.
الإسلاميون عمومًا ضد الحياة، هم يتجهّزون للآخرة التي يتخيلونها ويريدون أن يجهّزونا لخيالاتهم رغمًا عنا. يريدون أن يجرجرونا معهم في سفينة النجاة المتخيلة.. لذلك تجدهم دومًا في اشتباك عقائدي مع جملة مثل «ربك رب قلوب».. لأنها تعكس جانبًا متفائلًا في عقيدة المصري حول دار الآخرة وحول المعاملة الإلهية.
لا تتطابق رواية غير الإسلامي مع الإسلامي حول مشاهد يوم القيامة، فالذاكرة الانتقائية لكل طرف تنتهي به لإنتاج رؤية مختلفة، رغم استناد الطرفين لنفس المصدر. شرائط الإسلاميين وكتبهم مليئة بحكايا أهل النار وأهوالها.. والموروث الشعبي يذكر من الأحاديث النبوية الشريفة حكاية رجل دخل الجنة في كلب وامرأة دخلت النار في هرة.
احتشاد الناس ضد مرسي وضد عشيرته وتياره، هو احتشاد لأجل إنقاذ حياتهم ومصالحهم واقتصادهم.. وهو لأجل النأي بأنفسهم عن الكابوس القوطي الذي يصدره الجناح الأكثر غباء في الجسم الإسلامي.
هم يفرون بحياتهم ممن يتعقبونهم بالتكفير والتحريم والتضييق.. هم يثورون ضد طرح مغاير لطبيعة الحياة وإدراكهم لها.. هم يثورون ضد الكذب باسم الله، والتجويع على بركة الله، والتركيع لغير الله.
فقد أفسح مرسي في أسابيعه الأخيرة المجال لأقبح ما في الحركات الإسلامية (مشايخ شتامون، وفتاوى مرعبة، وتهديد صريح، واستباحة وقلة أدب غير مسبوقة في الحياة السياسية المصرية).
يظن مرسي وعشيرته أن المعركة بين الحق والباطل.. وأن الملائكة الغلاظ الشداد ستشوي أكباد مهاجمي الاتحادية.
لكن الحقيقة أن المعركة.. هي معركة بين من يريد الحياة.. وبين من لا يريدها لنفسه ولا لغيره.
هي معركة بين الأسوياء نفسيًا أو من هم إلى ذلك أقرب.. وبين المختلين أو من هم إلى ذلك أقرب.