لا أدرى كيف سوف ينتهى يومنا هذا، ولا يسعنا إلا الدعاء لله، ليس برد القضاء وإنما اللطف فيه؛ واللطف لن يكون إلا عندما تدرك جميع الأطراف أن هناك حدوداً للسياسة التى هى فى جوهرها تستخدم أدوات للتأثير والتغيير تبدأ بالإقناع وتنتهى باستخدام القوة المسلحة. إدراك الحدود من القوى السياسية فى مجتمع ما هو الذى يجعله ينتقل من حالة البدائية السياسية، التى يسيطر فيها على المجتمع قوة وحيدة (الحزب النازى أو الشيوعى أو الاتحاد الاشتراكى العربى أو البعث) أو حتى شخص واحد (هتلر أو موسيلينى أو صدام حسين أو نابليون أو ما أشبه).
ما بين الديكتاتور والنظام الشمولى مساحة تتعدد فيها الأشكال ولكنها كلها تتمتع بقصور إدراك حدود القوة والمدى الذى يمكن أن يصل إليه التأثير السياسى، ومن ثم فقد كان محتماً بالنسبة لها أن تنهار أو تهزم أو يثور عليها الناس، وباختصار تفشل حتى ولو حققت نجاحات هنا أو هناك. فقط عند إدراك الحدود، التى أولها الاعتراف بالآخر فرداً كان أو جماعة أو حزباً أو اتجاهاً فكرياً، وآخرها إقامة النظم التى تسمح لهذا التعدد بأن يعبر عن نفسه من خلال القول، أو من خلال الحصول على أصوات الناس فى انتخابات نزيهة.
والحقيقة أن آفة حارتنا لم تكن النسيان، كما ذكر نجيب محفوظ فى رائعته «أولاد حارتنا»، وإنما هى عدم إدراك الحدود من قبل أفرادنا أو جماعاتنا. عندما قامت الدولة المصرية الحديثة فى أعقاب ثورة ١٩١٩ لم يعرف لا الملك فؤاد أو فاروق الحدود، حتى تلك التى رسمها دستور ١٩٢٣ فكان حل البرلمان رياضة قومية، وكان دستور ١٩٣٠ فى حقيقته تجاوزاً لحدود النضج السياسى الذى وصلته الأمة المصرية.
وعندما قامت ثورة ٢٣ يوليو كان ذلك نتيجة أن النظام الملكى لم يعرف الحدود التى يقف عندها، فكان الملك مستبدا، وكانت الجماعة الحاكمة- رغم كل ما أنجزته على طريق تحديث البلاد- قد فشلت فى بناء القاعدة الاجتماعية اللازمة لها. ولكن ثورة يوليو لم تعرف حدودها هى الأخرى مع الخارج فكان احتلال سيناء مرتين، ومع الداخل وبعد خطة خمسية واحدة ناجحة، وبناء السد العالى، ومجانية التعليم، ضاعت الحدود تماماً، عندما لم تعرف الدولة أنه يمكنها تقديم تعليم مجانى، ولكن مع نوعية منخفضة لا تفيد خطط التنمية فى البلاد، وأنه لا يمكن للدولة أن تحقق النمو، من خلال قيامها بكل المهام، من أول بناء المساكن وحتى منح خطوط التليفون. جرى تعديل الأمر والسعى نحو النضج خلال السنوات التى تلت حرب أكتوبر، وتم إدراك بعض الحدود التى جعلت الشباب كتلة رئيسية، والطبقة الوسطى واعدة، ولكن كليهما لا يستطيع أن يزدهر بينما البلاد يبلعها عملياً حزب واحد، ويمسك بخناقها جهاز أمنى مرعب. وهكذا قامت الثورة فى يناير ٢٠١١، وأتى الربيع المنتظر، ولكن عامين ونصف العام تقريبا لم تأخذ النخبة السياسية من حالة البداوة إلى النضج السياسى.
ما جرى أن كل الحدود تم تجاهلها بعد ذلك، وبدلاً من استطلاع الحدود الرحبة للديمقراطية، جرى انكماشها، حتى باتت صناديق الانتخاب وكفى. وأكثر من ذلك أن حدود صندوق الانتخاب نفسه جرى تجاهلها، فهو بحكم التعريف قابل للنقض، بمعنى أن انتخاباً آخر، أو استفتاء آخر يمكنه أن ينقض نتائج ما سبق لأن الظروف تتغير، والتجربة تساعد فى الدفع نحو التغيير. الأكثر أهمية أنه لم يكن هناك إدراك لحدود ذنوب النظام السابق، فكان أن انفتح الباب على مصراعيه لإهدار الثروة التى كونها للبلاد، سواء من خلال الاحتياطيات القومية أو القاعدة الإنتاجية التى أضافها، أو البنية التحتية التى أقامها. وبدلاً من دعم ذلك جرت الاستجابة لكل المطالب الفئوية فى عملية سريعة وزعت الثروة بسهولة، وكانت النتيجة أن صار- كما هو متوقع- الجميع فقراء، ومعهم الوطن الذى بات يتسكع بحثاً عمن يعطيه مالاً أو طنا من السولار. وربما كان الرئيس مرسى أول من تعلم الآلام السياسية لعدم إدراك الحدود عندما وضع أهدافاً يتم إنجازها فى المائة يوم الأولى من ولايته، تبدأ بالنظافة التامة للمدن وتنتهى بوضع النهاية للازدحام المرورى. ومع العلم بخلفية الرئيس الفكرية الإسلامية، فهو لم يكن لا متاجرا بالشعارات، ولا مدغدغا لمشاعر الناخبين، ولكنه لم يكن يعرف الحدود، لا تلك البيروقراطية، ولا تلك الفنية، ولا الثالثة المالية، ولا الرابعة التى عندها تتصارع الأهداف المشروعة مع أهداف أخرى لا تقل عنها مشروعية. لم يكن الرئيس ولا مستشاروه بعارفين بحدود «اللعبة الديمقراطية» التى سرعان ما تحولت إلى صراع سياسى تم جر السلطة القضائية إليه، ومعها بدرجة أو بأخرى مؤسسات الدولة الأخرى، فكان هناك إعلان دستورى مرفوض، ودستور لم يتوافق عليه أحد، حتى إن الرئيس كان أول من تحدث عن تعديله قبل أن يجف الحبر الذى كتب به. وأياً كانت المعضلات القائمة مع النظام القديم فقد كان هناك إغفال لحدود العقاب الواقع عليه، فلا كان هناك معرفة بالحدود القانونية الحاكمة على البراءة والإدانة لأفراده، ولا كان هناك معرفة بأنه هو الذى يستحوذ على القدر الأكبر من الخبرة والمال، ومن ثم انتهى الأمر كله بالنظام إلى حالة من الركود الاقتصادى وتراجع الاستثمارات المحلية، بينما الشعب مستمر فى الزيادة السكانية. وللأسف لم تكن هناك معرفة بالحدود التى يمكن اتباعها فى السياسة الخارجية، وبعد أن كان النظام السابق متهماً بتدهور دور مصر الإقليمى، فإن النظام الجديد حكم على الدولة بالغياب الإقليمى، فضلاً عن تعريض مصر لأخطار متنوعة من أول الإرهاب وحتى احتمال نقص مياه النيل.
الأزمة النى نحن فيها الآن كلها تدور حول إدراك الحدود، وعندما استمعت إلى خطاب الرئيس يوم الأربعاء الماضى لم تكن المشكلة فقط فى الإدراك الذى ينصرف إلى المدى والعمق، وإنما إلى المعرفة. كانت صياغة القضية بسيطة كما يليق بنظام سياسى لايزال يخطو خطواته الأولى، وهى أن هناك حكماً يجاهد لوضع الأمور فى نصابها، وهناك معارضة وثورة مضادة ومؤامرة أجنبية تحاول منعه من النجاح. ولما كان النظام مؤمناً بالله وعارفا بطاعته وممثلاً لمصر كلها، فإن النصر لابد أن يكون حليفاً له. ربما يكون الأمر كذلك، ولكن ليس فيه إدراك للحدود التى تتمثل فى التعددية السياسية القائمة، والقوة الحقيقية القائمة للنظام القديم والممتد زمنياً بعمر الدولة المصرية الحديثة، وطبيعة التركيبة الاجتماعية والاقتصادية التى تقسم مصر بين الشمال والجنوب، والحقائق القائمة والمتراكمة منذ ثورة يناير وتوابعها من ثورات ومظاهرات ومليونيات وشبكات اجتماعية للشباب. وببساطة فإن إدراك حدود الحكم فى العاصمة يبدو غائباً، حتى وصلنا إلى تلك اللحظة التى أقيمت فيها الحوائط لحماية مؤسسات الدولة، فباتت هى حدودها المعلومة، ونزلت فيها القوات المسلحة إلى المدن بينما طائراتها تحلق فى السماء بما لديها من قوة النظر والترقب. فهل هذه هى الدولة التى وصلنا إليها أم أن هناك لدى السلطة شجاعة التصرف ضمن الحدود التى تنقلها من السياسة البدائية إلى مرحلة النضج السياسى. أدعو الله ألا نعيد الكرة مرة أخرى، ونبدأ القصة من أولها.