٣٠ ستة ليس يومًا عاديًّا، ليمر فى التاريخ كما يمر غيره من الأيام. ٣٠ ستة سيكون يومًا فارقًا فى تاريخ الشرق الأوسط، هو يوم المغادرة النهائية للعصور الوسطى. أن تغادر مصر العصور الوسطى معناه أن يغادر الشرق الأوسط كله تلك العصور. معناه أن يكون الشرق الأوسط مشاركًا حقيقيًّا للبشرية فى هذا العالم. هل الشرق الأوسط قليل ليكون له حق الشراكة فى هذا العالم؟ إذا قلت قليلًا، فسوف أقول لك على الفور، هذا الشرق الأوسط، الذى لا ترى أهميته، هو الأكثر تاثيرًا فى البشرية، بثلاث ديانات قدمها هى الأكبر والأكثر تأثيرًا فى تاريخ العالم.. «وهذا ما يجعل الأجزاء المتقدمة فى العالم كله، تعول على الثورة المصرية، لأنها تريد عالمًا أكثر سلامًا وأقل قبحًا».
فى التاريخ الحديث حاولت مصر الخروج من العصور الوسطى، وفى كل مرة، كانت محاولتها تنتكس، محاولة محمد علِى كانت الأولى، والثانية كانت محاولة عبد الناصر.. المحاولة الأولى أنتجت دولة الباشا.. المحاولة الثانية أنتجت التجربة الناصرية.. وفى المحاولتين كان الشعب مجرد متلقٍّ.. وكان الشعب أو معظمه «فقط» يوافق على ما يتلقاه.. «من هنا يأتى بريق التجربتين».. ولم يكن هذا هو المطلوب. كان المطلوب أن يكون الشعب هو الفاعل، هو واضع السياسات ومنفذها والمسؤول عن نتائجها.. ولو كان الشعب كذلك لاختلف الإيقاع.
يوم ١١ فبراير ٢٠١١ لم يكن الشعب واثقًا فى نفسه، كما ينبغى، لذا حين سقط مبارك، تلفت حواليه باحثًا عن الجاهز. كان الجاهز يومها هو القوات المسلحة. القوات المسلحة أدارت الدولة بالطريقة التى تعرف. أو الطريقة التى لا تعرف غيرها.. والطبيعى أن تفشل. وهو فشل جاء سريعًا ومدويًا.. فبحث الناس عن الجاهز الثانى. جاء إخوان.. ولكن إخوان ليس من طبيعته المضى قُدمًا. إخوان بطبيعة التكوين دائم البحث فى العصور الوسطى. وكان طبيعيًّا أن يفشل، لأن الدنيا بالفعل غادرت تلك العصور، بل غادرت العصور الحديثة «العصر الصناعى» ودخلت زمن ما بعد الحداثة «زمن المعلومات». وعبقرية الثورة المصرية أنها أول ثورة فى زمن المعلومات. وطبيعى أن تفشل ذهنية العصور الوسطى فى الاشتباك مع زمن المعلومات. عند هذا الحد لم يجد الناس بديلًا جاهزًا ليستحضروه.. من هنا يأتى نزولهم للميادين يوم ٣٠ ستة.. ومن هنا تقريبًا تأتى عبقرية ٣٠ ستة: عدم وجود البديل الجاهز.. وهذا يعنى أن الناس لن يلتفتوا للرف ليأتوا ببديل من فوقه.. ببساطة الناس، فى ٣٠ ستة، لن تنظر للوراء بل ستنظر قدام.. والنظر قدام بيخليك تشوف تجارب الآخرين الذين سبقوك على نفس الدرب.. وهذا يعنى أن تنطلق قُدمًا.. والانطلاق قُدمًا فى دولة ثقيلة وتاريخية مثل مصر يجعلنى، كمسعد، أشوف تجربتين، هما تجربة الهند وتجربة جنوب إفريقيا.. ما الفارق بين مشاريع نهرو فى الهند ومانديلا فى جنوب إفريقيا من ناحية، وبين مشروع ناصر فى القاهرة من ناحية ثانية؟ الفارق أن نهرو وثق فى قدرة الهنود على الاشتباك مع فضيلة الديمقراطية مثلما وثق مانديلا فى قدرة السود فى جنوب إفريقيا على تجاوز جروح العنصرية التى تركها البيض على أرواحهم وأجسادهم.. الشعب الهندى كان ولا يزال ليس أحسن حالًا من الشعب المصرى، نفس درجة الفقر ونفس درجة التشوهات النفسية والعقلية التى ينتجها هذا الملعون اللى اسمه الفقر.. ويشارك الهنود فى كل هذا الشعب الأسود فى جنوب إفريقيا.. ناصر لما تلفّت لم يرَ غير الأعداء الذين يحاصرون الثورة من كل ناحية. فاختار أن يتعامل بعقلية الأب الذى عليه أن يعلّم أولاده ويكفيهم شر الحفاء ولا داعى للديمقراطية «على الأقل مؤقتًا»، لأنها ستأتى بأعداء الثورة.. تصوّروا كيف ستكون الهند اليوم لو أن نهرو تعامل بنفس الطريقة مع الهنود؟ الهند فيها ألف دين وألف لغة وألف عرق وألف جنس.. كيف سيكون الحال؟ نيران المذابح كانت ستأكل الأخضر واليابس فى الهند.. ماذا فعل نهرو ليواجه هذا؟ أبدًا، بس حط الناس فى مواجهة مشكلاتهم.. جنوب إفريقيا، فيها ألف دين وألف قبيلة وألف لغة وألف لون وألف عرق، ماذا فعل مانديلا فى جنوب إفريقيا لمواجهة هذا؟ أبدًا، حط الناس فى مواجهة مشكلاتهم. حطوا ناسكم فى مواجهة مشكلاتهم يرحمكم الله.. واحثوا على التاريخ التراب وانظروا قدمًا.. لعل الله يأتى بأمر كان مفعولًا.