كنتُ أحيانًا أمزح مع أصدقائى «الزملكاوية» بخصوص تشابه الأسماء بين الكابتن حسن شحاتة، والقيادى الشيعى حسن شحاتة، بوصف كليهما ينتميان إلى «أقليات مضطهدة»، كان ذلك المزاح بالطبع فى الزمن السعيد، وهو تعبير يُقصد به كل زمن يسبق حكم الإسلاميين، حتى لو كنا نتكلم عن أفغانستان البائسة قبل طالبان، أو الصومال الفقير قبل شباب المجاهدين، بالطبع، بعد مذبحة أبو النمرس، لم يعد للمزاح مكان، وكما بعد كل مأساة يرتكبها «البسطاء»، من التحرش الجماعى إلى القتل الجماعى، فإنك لا تجد ما تفعله سوى التحديق فى حقيقتك وحقيقة مجتمعك، فى فيلم «الاختيار» ليوسف شاهين عن قصة نجيب محفوظ، يقول البطل إنك فى نهاية الرحلة لا تواجه الشيطان، بل من هو أسوأ: تواجه نفسك.
لكن «البسطاء» القتلة، أو المتحرشين، لا يتحركون غريزيًّا من تلقاء أنفسهم، إنما عبر عملية طويلة من الشحن بالكراهية والتحقير، ومن هنا خطرت إلى البشرية فكرة تجريم «التحريض».
وقّعت مصر عام 1967 على العهد الدولى للحقوق المدنية والسياسية، الذى تحظر مادته العشرون، الفقرة الثانية «أية دعوة إلى الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية تشكل تحريضًا على التمييز أو العداوة أو العنف»، لكن مصر، كالعادة، حين صدقت على الاتفاقية عام 1981، أرفقت بتوقيعها إعلانًا يقضى «مع الأخذ فى الاعتبار أحكام الشريعة الإسلامية وعدم تعارضها معه».
الحجة نفسها دائمًا.
هكذا، لم يكن مفاجئًا، أن رفضت الغالبية الإخوانية فى مجلس الشعب، فى مايو 2012، مقترح القانون الذى تقدم به باسل عادل، عن حزب المصريين الأحرار، لتجريم «التحريض على الكراهية بسبب الدين أو الجنس أو اللغة أو الثقافة أو العرق»، رئيس لجنة المقترحات والشكاوى طلعت مرزوق، نائب رئيس حزب النور السلفى، أجرى التصويت على المقترح فى غياب صاحب المقترح والأعضاء الليبراليين، وتم رفض الاقتراح بإجماع الحاضرين من حزبى النور والحرية والعدالة، ثم أُغلق الباب تمامًا على أية محاولة مثيلة، بإقرار الدستور الطائفى، الذى حول مصر رسميًّا إلى دولة سنيّة على مذهب أهل السُنة والجماعة.
فليس غريبًا أن شهدنا بعد ذلك التحريض الطائفى والسياسى يتم بحضور رئيس الجمهورية نفسه، لأننا إذا استبعدنا التحريض من الإسلام السياسى، التحريض ضد الأقباط والشيعة والمرأة والفنانين، فماذا يتبقى؟
نفى الآخر هو أساس الفاشية، من دونه تموت.
يعرف المهتمون بالشؤون «الدينية - السياسية»، بل يعرف حتى أصغر ضابط فى أجهزة مكافحة الإرهاب، أن ظهور نشاط تكفيرى فى مكان أو جهة ما، يعنى أن «العنف» هو الخطوة التالية، آجلًا أو عاجلًا.
فإذا صار التكفير على رأس الدولة، فمن المفاجئ أن لا نشهد أحداثًا مثل مذبحة أبو النمرس.
لا داعى لنقاش القائلين بأن مثل تلك الحوادث الطائفية «ليست جديدة»، و«تسبق حكم الإسلاميين»، وكأن من كان يرتكبها فى الماضى هم البوذيون، إنه الفصيل نفسه، وقد انتقل فقط من قاع الدولة إلى قمتها، وقد سمح لهم ذلك الموقع الجديد، بأن يمارسوا تحريضًا أكثر «تخصصًا»، لننتقل من الأقباط، إلى الخلافات «السُنية - الشيعية» الغارقة فى التاريخ، وهو ليس حتى تاريخا مصريا، وهم فى رحلتهم التحريضية، قضوا -مثلا- على نشاط إنسانى جميل هو الغزَل، ليحل محله سلوك قبيح هو التحرش.
من يحترم امرأة، لن يتحرش بها، أما من يسمع كل يوم، صباحًا ومساءً، حديثا يهدد «السافرات، المتبرجات، اللاهيات، المتنمصات، العاملات.. إلخ»، فينتهى به الأمر إلى احتقار كل امرأة فى الطريق، أو -فى الحد الأدنى- عدم احترامها، لأنه أصبح يراها خطيئة تمشى على قدمين، وهو إن لم يتحرش بها بنفسه، فليس على استعداد لبذل جهد -ناهيك بالتضحية- فى سبيل الدفاع عنها، هكذا كان واضحًا للغاية، الارتباط الزمنى الطردى بين ظاهرة التحرش، وظاهرة «الصحوة الإسلامية»، بنفس وضوح غياب التحرش فى «الستينيات وما أدراك ما الستينيات»، التى كانت المرأة فيها آمنة وترتدى ما تشاء، بالطبع لأن المحرّضين ضدها كانوا آنذاك فى السجون، حقيقة مؤسفة، لكنها تبقى حقيقة.
فإذا كان التحريض ضد المرأة، من أبرز نشاطات الحركة الإسلامية فى عمومها، فإننا لا ينبغى أن ننسى أن الإخوان، قد افتتحوا عمليات إرهاب الأقليات فى تاريخنا الحديث، وكان من أشهرها، تفجيرات 1948 فى حارة اليهود، ومحلات شيكوريل وعدس، التى كان لها «الفضل» فى إقناع اليهود المصريين، أن دولة إسرائيل الجديدة، أفضل لهم وأكثر أمانًا، بالضبط كما يقولون اليوم للشيعة المصريين أن يذهبوا إلى إيران، فبالنسبة إلى الفاشية، الزمن لا يمر.
ربما تتذكر، يوم إعلان فوز مرسى، المضايقات التى تعرض لها كثير من «السافرات» فى الشوارع، مصحوبة بتهديد بأن «مرسى هيلمّكوا»، يقول المثل العربى «إذا كان رب البيت للدفّ ضارب، فشيمة أهل البيت كلهم الرقص»، لكن بالطبع، يبقى الرقص فنًا إنسانيًّا جميلًا، لا يقتل ولا يذبح ولا يحرق الناس أحياء فى بيوتهم.