تحدثنا فى المقال السابق عما شهده مؤتمر العمل الدولى الذى اختتم أعماله منذ أيام فى جنيف من صراع عنيف بين عمال وحكومة مصر، وقد تم وضع مصر على القائمة السوداء لخرقها للاتفاقيات الدولية الخاصة بالحريات النقابية، وكانت النقابات المستقلة قد قدمت شكاوى ضد مصر لمنظمة العمل الدولية تتهمها بانتهاك حقوق العمال وقمع الحريات.
وفى الحقيقة فإن هناك صراعاً دائراً منذ اندلاع ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011 بين النقابات المستقلة التى ظهرت واشتد عودها فى ظل الحراك الديمقراطى الجارى فى مصر وبين وزارة العمل، كما أن هناك صراعاً آخر أشد عنفاً وضراوة بين تلك الاتحادات المستقلة وبين اتحاد عمال مصر الرسمى، وكل من الطرفين يهيل الاتهامات المشينة على الآخر. فالمستقلون يعتبرون الاتحاد الرسمى مواليا لأجهزة الحكومة، والاتحاد الرسمى يرى أن هناك أيادى خارجية توجه النقابات المستقلة وتدعمها بقوة لزعزعة استقرار البلاد بحجة دعم التعددية النقابية. وتتسع دائرة الصراع النقابى العمالى لتدخل النطاق العربى بل والدولى أيضاً، فاتحاد عمال مصر الرسمى – كباقى الاتحادات الرسمية العربية – يحتضنه الاتحاد الدولى لنقابات العمال العرب - الذى تأسس عام 1956 وقاد العديد من المعارك العمالية - وعلى الصعيد الدولى فإن اتحاد عمال مصر عضو فى اتحاد النقابات العالمى. أما الاتحادات المستقلة فيضمها ويدعمها اتحاد النقابات الدولى (الحر) ذو الدعم المالى الكبير والذى يشجع تأسيس النقابات المستقلة ويدعو إلى التعددية. وقد ظهرت مؤخراً نواة عربية جديدة إثر اجتماع عقد بالأردن منذ أيام لتمثل النقابات المستقلة تحت مسمى الاتحاد العربى للنقابات والذى لم يتبلور كيانه بعد نظراً لحداثة نشأته، وقد تم الإعلان عنه فى مؤتمر العمل الدولى بجنيف.
وفى الواقع فإن التعددية النقابية - وحتى تؤتى ثمارها لابد أن تسبقها أسس ديمقراطية تبنى عليها كافة مؤسسات الدولة حتى لا تنفلت الأمور مثلما حدث فى بعض البلدان العربية التى مارست نفس التجربة ولا تحصل إلا على التشتت والتشرذم، فضلاً عن أن اتحاد النقابات الدولى (الحر) الذى يحمل راية التعددية هو فى الأصل قد تأسس من خلال انضمام اتحادين كانا قائمين بالفعل، الأمر الذى يتنافى مع مبدئه القائم على التعددية!!
وللأسف فتلك الصراعات التى دارت فى أروقة مؤتمر العمل الدولى أثرت على أداء الوفود المشاركة، فارتفعت وتيرة العناد واتجهت نحو تحقيق الانتصارات الشخصية، وبرزت التدخلات الخارجية، مما أدى إلى بعثرة جهود ممثلى العمال فى الدفاع عن مصالح العامل المسكين الذى لا يبحث عن زعامة نقابية ولا علاقة له بالصراعات السياسية، فقط هو يطمح فى أن يعيش حياة كريمة وفى تأمين ظروف عمل وأجور مناسبة، وهذا كل ما يطلبه العامل من الحكومة.
وليس ما تشهده الساحة العمالية فى مصر من صراعات ببعيد عن دول عربية أخرى متشابهة فى الظروف. وقد تلاحظ أنه قبل انعقاد مؤتمر العمل الدولى من كل عام تلهث وزارة العمل فى مصر وفى كل بلد عربى محاولةً ترتيب أمورها مع العمال خوفاً من المساءلة الدولية، ولكن للأسف بعد أن يكون قد فات الأوان، ويتعذر علاج مشكلات العمال المتجذرة، ولا نرى إلا معالجات لا تسمن ولا تشبع من جوع، وتظل آلام العمال متعمقة ومستعصية على العلاج. لابد أن تنظر كل دولة بجدية لمشكلات العمال، وأن تتكاتف كافة القطاعات من أجل خلق منظومة سليمة تحقق الرفاهية لكافة المواطنين، وألا نترك وزارة العمل فى مهب الريح تتحمل وحدها سلبيات أنظمتنا الاقتصادية والاجتماعية المترهلة. والاعتصامات العمالية لا يجب أن يستهان بها فهى التى شكلت آلام الشعوب العربية التى تئن الآن.
كنت أتمنى ألا تنشغل الوفود العربية بأطرافها الثلاثة: الحكومات والعمال وأصحاب الأعمال فى مشكلات تباعد بينهم وبين الاستفادة الحقيقية من هذا المؤتمر الدولى الهام، فقد عرضت فى المؤتمر تجارب تنموية ناجحة اتبعتها بعض الدول النامية مثل البرازيل وإندونيسيا وفيتنام وغيرها، حيث حققت تلك الدول تقدماً كبيراً فى الحد من الفقر وتحقيق المساواة من خلال خطط تنموية ناجحة فى مقدمتها الاستثمار الإنتاجى، آمل أن نكون قد حملنا تلك التجارب فى حقائبنا عند العودة إلى بلداننا فهى حتماً ستكون أثمن الهدايا وأكبر الانتصارات.