بلغ الغرور بالطرف الثالث منتهاه، وتصور قادتُه أننا جميعًا فقدنا الذاكرة، فصاروا يظهرون فى وضح النهار وأمام الشاشات وعلى كل ألوان الصفحات وفى أكبر التجمعات؛ يعقدون المؤتمرات، ويصدرون البيانات، ويلقون بالتصريحات.
يفعلون ذلك بجرأة لم نكن نعهدها بعد الثورة التى أصابتهم بالإحباط، وجعلتهم يفضلون التوارى عن الأعين والكاميرات.. ها هم يعودون بقوة، ليرفعوا أصواتهم فوق الجميع: فوق الحاكم والمعارض، بل وفوق الثوار أيضًا!
تذكرت أدوارهم الرخيصة وخطبهم الرديئة أثناء توسلهم للشعب ورموزه الوطنية كى يحصلوا على فرصة ثانية أو أخيرة ليثبتوا أن ولاءهم لمبارك وعصره لم يكن اختيارًا، وإنما نوعًا من الخداع المشروع!
لم يكن بيننا من يصدقهم، حتى انقلب الحال مؤخرًا، وسمعنا كلامًا عجيبًا؛ تسللوا كالحرباء إلى المشهد السياسى من جديد، وجلسوا فى الصفوف الأولى، وكأنهم مُفجّرو الثورة وحُماتُها المخلصون! أكاد أسمعهم ينادون بعودة مبارك لاستكمال الأشهر التسعة المتبقية فى فترة حكمه!! ألم يكن من المفترض أن يستمر إلى نوفمبر 2011 على أقل تقدير؟
توردت خدودهم، ولمعت عيونهم انتظارًا للانقضاض على الفريسة، فمهمتهم لا تخرج عن إطلاق إشارة البداية، ثم مراقبة الموقف لمعرفة من يفوز، ليسارعوا بالانضمام إليه وإيهامه أن تأييدهم له هو السبب فى حسم الموقف لصالحه.
دعونى أصحبكم إلى داخل الملعب الكبير، حيث تقام المباراة الفاصلة على تسعة أشواط، وربما تستمر أكثر فى حالة التعادل فى الخسائر!
الملعب العملاق ممتد من مطروح إلى شلاتين، ومن العريش إلى توشكى.. أعداد لا أول لها ولا آخر ملأت المدرجات.. على اليمين يهتفون: إسلامية.. إسلامية. وعلى اليسار يصيحون: ليبرالية.. مدنية. فى المنتصف تجلس مجموعة قليلة العدد جدًّا يقال لها: الحكماء.. كلهم صامتون تمامًا.. وجوههم بشوشة بغير ابتسام.. ملابسهم بسيطة ولكنها أنيقة.. يسدون آذانهم كلما وصلت إليهم ألفاظ نابية وشتائم متدنية.
كل فريق يتكون من بضعة ملايين لاعب! تسألون عن الطرف الثالث؟ تلك المجموعة البريئة؟ لقد فضلوا أن يُقسّموا أنفسهم بين الفريقين حتى لا يزعم أحد أنهم يَدعَمُون فريقًا على حساب الآخر، بالطبع هذا هو السبب المعلن، أما السبب الحقيقى، فهو محاولة تعميق الفجوة وترسيخ الكراهية بين الطرفين؛ يبذلون أقصى جهدهم، حتى وهم فى مباراة الاعتزال التى يظنون ويتمنون أن يعيشوا بعدها معززين مكرمين، مهما كان الثمن الذى سيدفعه اللاعبون والجمهور!
لقد تحالف الطرف الثالث مع الباحثين عن دور فى كلا الفريقين، فهؤلاء يتكلمون نفس اللغة، ويشتركون معهم فى الكثير من القيم الفاسدة، خصوصًا تلك التى ينزلق إليها المرء بالتدريج: «يجب ألا أنسى مصلحتى».. ثم «مصلحتى أولاً».. حتى يصل إلى «مصلحتى أولاً وأخيرًا».
ستبدأ المباراة التى صُمِّمَت على فكرة الشطرنج، بمعنى أن يكون الفائز هو الذى ينجح فى إحداث أكبر خسائر ممكنة فى الفريق الآخر وتدمير تحصيناته.. عندما تطمئن عصابة الطرف الثالث أن الكل يضرب فى الكل، سيطلبون من اللجنة الشعبية التى تدير المباراة مغادرة الملعب بحجة أن لياقتهم محدودة، والواقع هو أنهم يخشون على أنفسهم!
بعدها ستخف حدة التوتر، وتظهر بوادر التهدئة بين الفريقين حتى تنتهى المباراة، وقد أيقن الفريقان أن صراع الأشخاص يجب أن يتراجع تمامًا أمام التمسك بقيم الحق والعدل والخير والجمال من أجل استكمال حلم الثورة وجميع أبناء مصر فى ألا نظل ندور فى فلك حاكم فرد، ونستبدل به نظامًا ديمقراطيًّا يتسع للجميع.
فى المستقبل القريب سيلفظ الفريقان الطرف الثالث الذى يحلو لى أن أطلق عليه «عفريتة هانم» للتشابه الكبير فى الدور الذى يؤديانه، مع اختلاف الدوافع طبعًا.
اللهم بَلِّغْنا رمضان.. شعبًا واحدًا يُقدِّر نعمة الاختلاف، ويحمدك لأنك هديت الإنسان المتحضر إلى الحكمة والديمقراطية.