السيسى كان يتحدث بشكل محدد وبكلمات قاطعة ومؤكدة وحاسمة وحازمة وواضحة الدلالة
وزير الدفاع وجَّه كلامه إلى أشخاص بأعينهم وكيانات بذواتها تظهر على شاشة وعيه يرى أنها تسىء إلى الشعب وتهدد أمنه وسلامته
نبرات صوته كانت تمتلئ بالألم النبيل والغضب المنضبط والقوة الهادئة الرزينة والتحذير المسؤول والتنبيه القاطع الواضح
حين كان يتطرق إلى الحديث عن الشعب كانت نبرات الصوت ترقّ وتشفّ وتمتلئ بوجدانيات المحبة والحنان والرعاية
وتجهيل المخاطَب هنا أبعد البيان عن تهمة الاستقطاب، وهذا أمر مهم خصوصا فى تلك الظروف التى تورط فيها الساسة فى الاستقطاب وفقدوا قدرتهم على الحيادية والتجرد الوطنى. وحين كان يتطرق إلى الحديث عن الشعب كانت نبرات الصوت ترقّ وتشفّ وتمتلئ بوجدانات المحبة والحنان والرعاية «أَنْهِى مروءة اللى نقدر نعيش بيها كضباط أو ضباط صف والشعب المصرى.. أهالينا.. مروَّع وخايف.. دا إحنا نروح نموت أحسن» ويلاحَظ أنه لجأ إلى التعبير بالعامية المصرية البسيطة فى العبارة الأخيرة لكى تحمل مشاعره التلقائية بصورتها الطبيعية التى يتحدث بها أولاد البلد المتصفون بالشهامة والجدعنة والمروءة والنجدة.
وحين يتحدث إلى من يعتبرهم مهدِّدين لعلاقة الجيش بالشعب أو مسيئين إلى الجيش ورموزه فإنه يستخدم نبرات تحذيرية ولغة تأكيدية ويكرر العبارة مرتين بعد أن ينبه «أقول تانى»، وقد حدث هذا مرتين فى العبارتين التاليتين:
«ويخطئ من يعتقد أنه بأى حال من الأحوال يمكن الالتفاف أو الاختراق لهذه العلاقة فى وجدان الجيش مع شعب مصر العظيم»... «ويخطئ من يعتقد أننا سنظل صامتين أمام أى إساءة قادمة للجيش ورموز الجيش.. وأرجو أن يدرك الجميع مخاطر ذلك على الأمن القومى المصرى». وهنا تستطيع تحديد المقصودين بهاتين العبارتين، أولئك الذين دأبوا فى الفترة الأخيرة على تجريح الجيش وتوجيه العبارات المهينة إلى رموزه، وهؤلاء يعرفهم الشعب جيدا.
وتأتى الكلمة التى وقف على أثرها القادة فى وقار واحترام نبيل ليحيّوا قائدهم حين قال بهدوء وثقة ومحبة: « كل كلمة قلتها متجردة من أى شىء إلا من حب البلد.. وحب كل الناس.. مسلم ومسيحى.. كل الناس». ويبدو أن هذه الكلمة «كل الناس» قد لمست جرحا مفتوحا هذه الأيام، حيث ساد خطاب سياسى خاطئ وغير مسؤول فرَّق أبناء الوطن إلى إسلاميين وغير إسلاميين، إلى مؤيدين محبوبين وإلى معارضين مكروهين ومنبوذين، خطاب سياسى سادت فيه النزعة الطائفية والنزعة الاستقطابية الصراعية بما بات يهدد باقتتال أبناء الوطن الواحد حيث غابت الحيادية والموضوعية والتوازن والاعتدال عن الخطاب السياسى وعن الرموز السلطوية السياسية مما ينذر بإشعال الحرائق فى ربوع الوطن. إن كلمة «كل الناس» التى نطقها الفريق السيسى بكل صدق وحب ومسؤولية ورعاية تداوى هذا الجرح المفتوح الآن والذى تلوِّثه دعوات عنصرية وإرهابية وتصريحات بغيضة وتهديدات غير مسؤولة ممن يتصدرون للخطاب السياسى الآن ويحركون دفَّته. إن هذه الكلمة «كل الناس» تبدو بلسما شافيا فى هذا السياق الآن بعدما انقسم المجتمع وتشرذم وأصبح على حافة الهاوية بالدخول فى صراع أيديولوجى أو دينى أو عنصرى أو طائفى.
ولا يترك المنصة دون إعطاء مهلة وإنذار محددين: «يجب الوصول لصيغة تفاهم ومصالحة وطنية لحماية مصر، ولدينا أسبوع يمكن إنجاز الكثير من خلاله». وهذه رسالة واضحة للجميع.. سلطة ومعارضة.. بأن الأمر لا يحتمل هزلهم، وأن أمن الوطن وسلامته فوق الجميع ولا يحتمل تلك المهاترات غير المسؤولة. وهى رسالة سلطوية مسؤولة ونبيلة توجَّه إلى العابثين بمصير الشعب المصرى لحساب مكاسب شخصية أو حزبية أو فئوية. وهناك بعض أخبار تسربت بأن الفريق السيسى قد يدعو خلال أيام إلى حوار وطنى بين القوى السياسية المتناحرة وذلك تأكيدا وتفعيلا لعبارته «إن الجيش لن يظل صامتا أمام انزلاق البلاد فى صراع يصعب السيطرة عليه». وهذا يذكِّرنا بدعوة الحوار التى كانت قد أطلقتها المؤسسة العسكرية فى نوفمبر الماضى على خلفية تداعيات الإعلان الدستورى ولم ترحب بها الرئاسة فى ذلك الوقت وأجهضتها. وهذه الدعوة للحوار تحت رعاية المؤسسة العسكرية تضمن جدية الحوار وتشجع الفرقاء على الانضمام إليه خصوصا حين يضمن الجيش تنفيذ تعهداته، ولكن من الناحية الأخرى فإن هذا قد يزعج مؤسسة الرئاسة، حيث تبدو فى موقع أدنى أو أنها فقدت ثقة الأطراف الأخرى بينما حاز الجيش هذه الثقة وأنها فشلت فى ما نجح فيه غيرها، وهذا يهز من ثقل وشرعية مؤسسة الرئاسة. وعلى الرغم من كون هذا جارحا لكبرياء الحكم فإن الواقع المرير يستدعى ذلك، ويستدعى قوة معتدلة محايدة ووطنية تلم أشلاء الوطن، ويؤيد هذا ما ورد فى استطلاع الرأى الذى أجرته مؤسسة «جيمس زغبى» الأمريكية الذى أظهر أن 28% من المصريين يؤيدون الرئيس و35% من المصريين يؤيدون المعارضة بينما 94% يثقون بالجيش. إذن يبدو أن الجيش هو القوة المؤهَّلة الآن لرأب الصدع ووقف الاحتراب الأهلى، وهذا لا يعنى عودة الحكم العسكرى ولكن يعنى موقف إنقاذ طارئ إلى حين الخروج من الأزمة السياسية.
والبيان فى مجمله يوحى بحالة من الاستقلالية عن مؤسسة الرئاسة وربما أيضا بحالة من الفوقية، فهو لم يكن يتحدث كمرؤوس لأحد، ولم يشر إلى توجيهات أو تكليفات من أحد بل كان هو -بشخصه وبمنصبه- الموجِّه والمحذِّر والمنبِّه والمؤكد والمطمئن والواثق من قدرته على تنفيذ ما يقوله دون الإشارة إلى سلطة أعلى يتحدث تحت مظلتها. ويتضح هذا أكثر فى عبارته: «مسؤولية تاريخية ووطنية وأخلاقية ملقاة على عاتقنا الآن.. مسؤولية أمام ربنا الآن هنُحاسب عليها.. لن نسمح بدخول مصر فى نفق مظلم من الصراع أو الحرب الأهلية أو الفتنة الطائفية أو انهيار مؤسسات الدولة». وهو يتحدث كقائد وزعيم ينطلق من إرادة الشعب ويعلن أنها هى التى تحكمه: «إرادة الشعب المصرى وحده هى التى تحكمنا.. ويخطئ من يعتقد أنه يمكن الوقوف أمام هذه الإرادة.. ونحن مسؤولون مسؤولية كاملة عن حماية إرادة هذا الشعب العظيم». ويبدو أن هذا الأمر أزعج السلطة الحاكمة فرأينا فورا بيانا عاجلا يظهر على شاشات التليفزيون: الرئيس يوجه الفريق السيسى لحماية المنشآت الحيوية. وكأن هذا البيان يوصل رسالة للمشاهد والسامع بأن الرئيس ما زال هو الموجه والآمر، وأن الفريق السيسى ما زال يتلقى الأوامر من سلطة أعلى.