أسأل نفسى كيف كان شكل المسيحية لو لم يُصلب المسيح؟ لو انتصر فى حياته وأقام دولة؟ هل كانت تعاليمه الأساسية، فى فترة الاستضعاف -وهى كل حياته- ستستمر كما هى؟ أم كان سيحتاج إلى إظهار «عين السلطة الحمراء»؟ هل كان سيحاط بـ«مؤمنين» لهم مثل ما لباقى البشر أغراض دنيوية، وصراعات، ونفوس ترى الأمور من وجهات نظر مختلفة، وتسعى إلى أهداف مختلفة؟
أسأل نفسى كيف كان شكل الإسلام لو قتل الكفار النبى محمدا ليلة الهجرة؟ هل كان المسلمون سيتعبدون حتى الآن بالتعاليم المكية، الداعية إلى حرية العقيدة التى كانوا يحتاجون إليها وقتها؟ أم كان الإسلام سينهار لأن أى سلطة أرضية كانت سترفض قيمه المنفتحة تلك ويبقى دينا للمستضعفين؟ أم كانت ستتبناه سلطة تفسر كل سماحته المكية تفسيرا يخرج به عن السماحة ويحوله إلى مجرد «سلطة» أو «عونا للسلطة»؟
الإجابة التى لا أريدها: لم يكن هذا ليحدث لأنه قدر الله. لا أريدها لأنها ستجعل الأسئلة بلا معنى، وتحرمنا من واحدة من أكبر متع الحياة. التفكير. وهو كالحكايات، إن لم يكن مشوقا فلا قيمة له. لاحظى هذا الحوار:
- كم مسلما قتله كفار مكة؟
- أعرف سمية، وياسر. ماعرفش حد تانى. بس يمكن فيه.
- هل كان القتل دا مبررا؟
- لا طبعا.. أتقتلون رجلا أن يقول ربى الله!
- إيه رأيك فى اللى حصل مع يهود بنى قينقاع؟
- يهود بنى قينقاع كشفوا عورة امرأة مسلمة راحت تشترى من محل صائغ يهودى.
- بغض النظر عن أن هذه الحادثة لا أساس لها فى كتب السيرة المبكرة، وأن المتأخرين رووها بلا أسماء. هل تقصدين أن طرد قبيلة كاملة من كل الجزيرة العربية، وتشريدهم من ديارهم، جزاء عادل لكشف عورة امرأة مسلمة داخل محل دهب، فيه شخصين ولّا خمسة؟
- دا كان أمر إلهى.. النبى بنفسه نفذه.
عظيييييم. هنا بيت القصيد.. العقلية الدينية -كشرط للإيمان- تقبل هذ التبرير لأنها واثقة من عدالة مصدره. لكن الكارثة حين تريد أن تستخدم المبررات نفسها -ومن ثم السلوك نفسه- فى مواقف لا يصح فيها استخدامها. بمعنى أنها تقدم نفسها بصورة مستضعَفى مكة من المسلمين الأوائل حين تكون بعيدة عن السلطة. ثم حين تصير فى السلطة تفعل مع الناس ما فعل مسلمو المدينة، أصحاب السلطة، مع بنى قينقاع. دون أن تلتفت أولا إلى غياب أهم عنصرين بررا هذا: الإله والنبى.
والأهم أن العقلية الدينية لا تريد أن تدرك أن غياب هذين العنصرين هنا ليس شيئا هينا. لماذا؟ لأن بغيابهما تنتفى منطقية التصرف تماما. بغير الأمر الإلهى لن يكون منطقيا أن نصرخ فوق المنابر شكوى من اضطهاد كفار مكة للمسلمين الذين أرادوا قلب نظام الحكم، حين يكون هؤلاء الكفار قتلوا فى ١٣ سنة اثنين أو حتى عشرة. بينما نجد -فى غياب الأمر الإلهى- أن طرد بنى قينقاع شىء عادى لأن نفرا من هؤلاء تسببوا فى رفع ملابس امرأة مسلمة فبانت عورتها. (لن أدخل فى قتل جميع رجال بنى قريظة، لأن هذا مبحث آخر). لن يكون منطقيا أن نصرخ فوق المنابر شكوى من ظلم «كفار الغرب»، بينما نحن أكثر الناس ظلما واضطهادا للمسلمين. هذه وصفة جنون واضح.
المتدينون يحتاجون بشدة إلى أن يذكروا أنفسهم كل صباح بأنهم ليسوا أنبياء وأن شيوخهم ليسوا آلهة. وأنه فى غياب الوحى بين إله ونبى فإن أفعالهم غير مبررة على الإطلاق. بل هى قمة الظلم والطغيان. أكثر كثيرا كثيرا من ظلم وطغيان كفار مكة.
الآن أعود إلى ما بدأت به: فى الإسلام قتل رجالُ الدين النبىَّ المكى، نعم، قتلوه معنويا، ووأدوه مع ١٣ سنة من القيم العظيمة التى لا تحبها السلطة. فقدموا للإسلام صورة غير مكتملة ولا متوازنة، كأن الرسالة كانت فى المدينة فقط، والنبى عاش فى المدينة فقط. تماما كما أنزل رجال الدين فى العصور الوسطى المسيح من صليبه، وأعطوه سلطة لم تكن بيده، ونسبوا إليه أفعالا لم يعش ليفعل مثيلاتها. احذرى رجال الدين فهم رجال الدنيا.