لم يتخيل أكثر الناس جموحًا أن احتجاز القيادي السلفي ياسر برهامي في مطار برج العرب لعدة ساعات، قد يُغيّر – ما بين غمض عين والتفاتتها- موقف الدعوة السلفية من مسألة الخروج على الحاكم، إلى حد أن يخرج الشيخ برهامي علينا قائلًا: «إذا خرج ملايين زي اللي خرجوا في الثورة، سأطلب من الرئيس مرسي أن يستقيل لأن دي طريقة دستورية».
حنانيك يا برهامي! احتجاز عابر في قبضة الشرطة يغيّر فقهك رأسًا على عقب؟ قرصة ودن- زائلة ومنسية- تدفعك لمعاداة الرئيس «الإسلامي»؟ جلوسك في مطار برج العرب المكيف يصل بغضبك وعقلك إلى أن تلفظ ميراث مشايخك وتجيز الخروج على الحاكم؟
ربما سيكون من العسف بمكان أن نتذكر قول القائل «إذا اختلف اللصان بان المسروق»، لكن الشرخ المتزايد بين الدعوة السلفية والإخوان خرج عن إطاره السياسي وحقائقه الإنسانية لرحابة التراشق الفقهي المتبادل بين الفريقين.. والتراشق هنا مناوشات على تخوم الكفر وحدوده!
***
«إن (الفقه الرجعي) الذي يسير في ركاب الحكام، وإن ظلموا وجاروا، ينبغي أن يختفي أمام (الفقه الثوري) الذي يعمل لتقوية الشعوب، ويُنقِّي الحُكم من مطامعه ومساوئه».. الدكتور يوسف القرضاوي.
***
بث الداعية الإخواني وجدي غنيم تسجيلًا على شبكة الإنترنت، أفتى فيه بكفر الخارجين على الرئيس مرسي يوم 30 يونيو، وقال عنهم هم: «العلمانيون والبلطجية والصليبيون والشباب المُغرَّر بهم.. وهؤلاء كفار».. هل رأيت هذه الإضافة الرشيقة العابرة في نهاية جملته.. «وهؤلاء كفار»! ثم أضاف أن الخارج على مرسي «سيُقتل».
***
«لا نريد أن نُصوّر أن الأمر حرب على الإسلام، لكنه في النهاية خلاف سياسي بين فصائل سياسية بالمجتمع». الدكتور ياسر برهامي
***
وبدا وجدي غنيم في إصراره على تكييف وتكييل تهمة «الكفر» أقرب ما يكون لأكاديمي رصين يسوق الحجة تلو الحجة، يحاول إسباغ نوع من المشروعية على رأيه قائلًا: «أنا حاصل على شهادات قد كده.. ومن الأزهر»!..ثم طالبًا، بارتباك ملحوظ، من هيئة الفتوى أن ترد عليه بعد أن قال قول الحق عز وجل في محكم تنزيله «أطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ».
***
أما استدلالهم بهذه الآية الكريمة «أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ» فهو في غير محله، فطاعة ولي الأمر تجب إذا ما تحقق بطاعة الله ورسوله وقام بتنفيذ شرعه وما تم الاتفاق عليه بينه وبين شعبه، والشعب الآن بمئات الآلاف والملايين يطالبه بالرحيل، وهو لا يستجيب لهم!!.. الدكتور يوسف القرضاوي.
***
الطريف أن الشيخ وجدي لا ينكر أنه ممن أفتوا بجواز الخروج على حسني مبارك، ثم يسوق أسباب فتواه أيام مبارك بأنها كانت أيام ظلم وضير، دون أن يتحدث عن ضوابط الخروج على الحاكم في مذهب أهل السُّنة والجماعة، التي قصرها فريق كبير منهم على «كفر الحاكم» فحسب!
لكن الزمن غير الزمن والفتوى غير الفتوى.. ووجدي غير وجدي.
***
شباب في عمر الزهور يلبون النفير العام وقد تم تجهيزهم نفسيًا أنهم خارجون للقاء فلذات أكباد قريش من عبدة اللات والعزى ومن وائدي البنات وشاربي الخمر ولاعبي الميسر.
بينما في حقيقة الأمر هم خارجون لملاقاة جيرانهم وأصحابهم وزملاء دراستهم، وبعض الواقفين معهم في صف الصلاة يوم الجمعة!
نعارض الإخوان في أمر الأرض، فيصرخون أننا ننازعهم في مشيئة السماء.
نختلف معهم حول سياسة الدولة وسلوك قادتها وتردي أوضاعها.. فيسوقون آيات الله ويحشرونها كيفما اتفق في الرد علينا.. نحاول إقناعهم أننا نتصور أن هناك شكلاً أفضل لتدارك النتائج الكارثية لسياسة النطيحة والمتردية.. فيقولون إننا نجنح بهم عن «سياسة» السماء!
***
«ولقد سبق لي أن أصدرت عدة فتاوى في شأن مصر، رددْتُ فيها على من زعم أن التظاهرات خروج على ولي الأمر، وبينت فيها: أن هذا الأمر أجازه الدستور والقوانين، كما بينت فيها حدود الطاعة لولي الأمر، ورددت فيها المتشابهات إلى المحكمات والجزئيات إلى الكليات.
نسي هؤلاء العلماء أن الدستور الذي وضعوه والقوانين التي صدرت عنه تبيح لهم الخروج في مظاهرات سلمية، لا يجوز للحاكم ولا لغيره أن يعتدي عليها، لكن الحاكم عارض الدستور والقانون وعارض الشرع واستحلّ الدماء».. الدكتور يوسف القرضاوي.
***
الأنظمة المرتعشة المرتعبة هي التي تتوهم الشك والريبة والخطر والعدوان من كل فعل وكل طرف.
فحين أفتى الإمام مالك بن أنس، إمام دار الهجرة، بعدم وقوع يمين المكره، أي بعدم الاعتراف بتطليق الرجل لزوجته إذا كان الطلاق تحت ضغط شخص ما أو جهة ما واعتباره لم يقع من الأساس.. اعتقد الخلفاء العباسيون أن الفتوى لها بعد رمزي، يجيز للناس التنصل من بيعتهم للعباسيين إذا كان أحدهم قد بايع تحت ضغط!
فقال ابن الجوزي في «شذور العقود»: «وفيها – أي في سنة سبع وأربعين ومائة – ضُرب مالك بن أنس سبعين سوطًا لأجل فتوى لم توافق غرض السلطان».
وهكذا يتعامل مرسي وعشيرته ومن والاهم، يتوهمون الكفر والإلحاد والفسوق والعمالة فيمن يختلف معهم.. ويتأوّلون الكلام والنوايا من نافذة بارانويا متقدمة.
وليت المعركة في عظيم! بل هي في رؤية ملايين المصريين لتدني القدرات الشخصية للرئيس مرسي وعدم تمكنه من قيادة وتدبر شؤون البلاد، ووقوفه عاجزًا عن إيقاف عربة الوطن السائرة نحو الهاوية.. ببساطة هو موقف سياسي مشروع من رجل سيخلد التاريخ من أقواله «إذا القرد مات.. القرداتي يشتغل إيه».
إن الدعوة لإجراء انتخابات مبكرة ليست فتوى من الإمام مالك.. لكنها تقول بوضوح إن حكم مصر في لحظة تاريخية حرجة كهذه لا يحتمل كل هذه الميوعة وكل هذا الخرق السياسي من العشيرة والجماعة ومن سار على نهجهم.
***
«مرسي ولي أمرنا ولا بد أن نطيعه، لا يجوز الخروج على طاعته والمطالبة بتغييره قبل انتهاء مدته، أقول حرام عليكم دعوة الناس إلى هذه الفتنة والمطالبة بخروج محمد مرسي».. الدكتور يوسف القرضاوي!
إذا بدا الاقتباس الأخير للدكتور القرضاوي خارجًا عن سياق الاقتباسات أعلاه، فاذهب للشيخ واسأله عن تضاربه في المسألة نفسها، حين ساق الحجج الأولى ضد الرئيس اليمني السابق على عبد الله صالح، وحين خالفها مع مرسي.
أو بالأحرى فلتقل للشيخ القرضاوي وللأستاذ وجدي وللدكتور ياسر (ولكل منهم موقفان متناقضان من المسألة نفسها وفقًا للظرف ووفقًا للمصلحة).. نحن نخالفكم على أمر الأرض.. فلا تستدرجونا لمعركة في السماء!