من الواضح أن الولايات المتحدة تقامر وتغامر بآخر أوراقها في مصر. فواشنطن تعرف جيدا أن قطاعات هائلة من المصريين لا تحب سياساتها الاستعمارية التي تعتمد على العنف والمؤامرات والتدخل السافر في الشؤون المصرية الداخلية والإضرار بالمصالح الإقليمية المصرية للضغط الدائم. إن الولايات المتحدة لا تريد أي نظام وطني في مصر لأسباب معروفة تاريخيا، وعلى رأسها الاقتصادية والجيوسياسية. وبالتالي تعتبر الإدارة الأمريكية أن هزيمة الإخوان الآن في مصر هي هزيمة لها وتدمير لكل سيناريوهاتها العسكرية والاقتصادية في المنطقة. هذه السيناريرهات مرتبطة بسيناريوهات أخرى أكبر وأوسع لا يشكل الإخوان فيها إلا قيمة ضئيلة للغاية. ولكن من هزم مبارك وأطاح به رغم دعم الولايات المتحدة له في حينه، قادر على إحباط كل الخطط والسيناريوهات الأمريكية وإفشالها. ولذلك فمسؤولية الولايات المتحدة عن أي عنف وإراقة دماء في مصر لا تقل عن مسؤولية الجماعات الإرهابية، وعلى رأسها الإخوان المسلمين والسلفيين والمرتزقة الذين أفرج عنهم الرئيس الإخواني محمد مرسي لمواجهة المصريين وقتلهم في حال فشل تجربة الإخوان أو الإطاحة بهم.
وهكذا فمصير المنطقة متعلق، شئنا أم أبينا، بما سيبدأ يوم ٣٠ يونيو في مصر. لا أحد يمكنه أن يتكهن بما سيحدث، ولكن الأمر في كل الأحوال أصبح مرتيطا ارتباطا عضويا ومباشرا بإرادة ملايين المصريين الذين سيخرجون إلى الشوارع والساحات والميادين استكمالا لثورتهم ضد الاستبداد والعنصرية الطائفية والاجتماعية. إن صراع المصريين الآن لم يعد مع الجماعات الإسلامية الإرهابية وتيارات اليمين الديني المتطرف فقط، بل أيضا مع القوى الداعمة لهذه القوى والتيارات، وعلى رأسها الولايات المتحدة وحلفها الأورو أطلسي وبعض الحلفاء الإقليميين الصغار. وربما تجد قوى المعارضة السياسية الوطنية نفسها في مأزق حقيقي قد يودي بها إلى مزبلة التاريخ إذا تقاعست عن النزول إلى الشارع خلف المصريين وبينهم لأسباب كثرة هامة، على رأسها أن المعركة الحالية مع تيارات اليمين الديني المتطرف والقوى التي تدعمها أصبحت مسألة حياة أو موت بالنسبة لملايين المصريين الذين أدوكوا أنهم خُدِعوا بالشعارات الدينية والوعود الكاذبة بالرخاء والجنة. وهي أيضا معركة حياة أو موت، سواء للتيارات المتطرفة والإرهابية وللولايات المتحدة أيضا. ومن الواضح أن كل الطرق والأساليب والسيناريوهات التي تجربها التيارات المتطرفة والإرهابية، تحت إشراف الخبراء والدبلوماسيين الأمريكيين، لتخويف المصريين وبث الرعب في البيوت والشوارع والقرى والمدن المصرية تواجه فشلا ذريعا.
من الواضح أن المصريين حسموا أمرهم بشكل نهائي، ما تعكسه حملة "تمرد" والحراك غير المسبوق في الشارع المصري. وتبقى الكرة في ملعب المعارضة الوطنية بكل ألوانها وأطيافها. فعلى الرغم من عدم رضاء قطاعات كبيرة من المصريين عن أداء المعارضة، ومحاولات التيارات اليمينية الدينية ونظام الإخوان استخدام هذا العامل الخطير، إلا أن الشارع لا يزال ينتظر خطوة حاسمة من قوى المعارضة وزعمائها الوطنيين الذين يجب أن يكونوا مدركين لأهمية اللحظة التاريخية والظرفين الذاتي والموضوعي. في هذه الحالة بالذات تقل أهمية نفوذ وتأثير الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين والإقليميين على الأحداث في مصر. إضافة إلى أن المصريين بالفعل ممتعضون تماما من سياسات واشنطن والدول الأوروبية تجاه بلادهم والاستهانة التامة بما يجري لهم واعتماد معايير مزدوجة في التعامل مع القضايا المصيرية للمصريين.
ويجب أن نعرف جيدا أن جيفري فيلتمان مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلاري كلينتون أصبح يشغل الآن منصب مساعد الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون السياسية. وفيلتمان لمن لا يعرفه هو مهندس إجهاض كل ما جرى على أيدي الشباب في كل من تونس وليبيا، وقام بعدة جولات مكوكية في مصر أثناء شغله منصبه السابق. والآن تحل محله فعليا عملية الاستخبارات الأمريكية السيدة آن باترسون التي تعمل تحت غطاء منصب سفير الولايات المتحدة في القاهرة. والسيدة باترسون لها تاريخ طويل في باكستان وأفغانستان وكل المناطق التي تم تدميرها في السنوات السابقة. وهي في الحقيقة لا تنكر ولا تنفي كل جهودها الجبارة في إجهاض كل محاولات المصريين التحرر من الحكم الطائفي والنظام اليميني الديني المتطرف، بل تعلن أن واشنطن تدعم الإخوان وتقدم النصائح للمصريين بالانتظام في أحزاب سياسية.
لا أحد يعرف فعليا ماذا سيحدث في ٣٠ يونيو وما بعده. لكن المصريين مصممون على الخروج لإنهاد الحكم الديني في الوقت الذي تفشل فيه تدريجيا كل سيناريوهات التخويف والترهيب والتهديد التي تمارسها، سواء التيارات الإرهابية والفاشية، أو الولايات المتحدة. وتبقى الكرة في ملعب قوى المعارضة وزعمائها من أجل اتخاذ خطوات محددة وواضحة لا للتفاهم أو الحوار أو تقديم مطالب ما إصلاحية، بل من أجل الالتحام مع الشارع وفي الشارع وإدراك أهمية هذه اللحظة التاريخية. هنا من المستحيل أن تجرؤ البولايات المتحدة على مواصلة مغامراتها واتخاذ أي خطوات حمقاء وغير محسوبة.