إنها ظاهرة لم تمُت.
بل مستنسَخة فى كثير ممن يلغون باسم الثورة هذه الأيام.
ظاهرة على طه..
لعلَّك تذكر معى على طه فى فيلم «القاهرة 30» (قام بدوره الفنان عبد العزيز مكيوى، والمفارقة أنه تقريبًا اختفى من الساحة مع على طه)، حين كان يصاحب سعاد حسنى فى شوارع القاهرة، فإذا به يترك جمال عينيها ورشاقة جسدها وابتسامتها وحلاوة روحها ويتحدث معها عن الفيلسوف أوجست كونت، بينما سعاد حسنى فاكرة كونت هذا الحاج الذى يبيع فلسفة على أول الشارع! ومن المؤكد أن أوجست كونت شخصيًّا لو كان يصاحب فى مشيته سعاد حسنى لطلّق الفلسفة بالتلاتة ساعتها وتعلق بعنقها وركع عند قدميها وحضنها عند الشجرة ووسّع يا مخرج واحذفى يا رقابة! لكن ماذا تفعل للمغفل على طه الذى تراه فى كل مشاهد الفيلم متجهما ومكشرًا متضايق قوى ويتخانق مع ذباب وجهه وينهر ويزجر زملاءه الطلبة رافضا الفرح والمرح، فضلا عن أنه يمسك طول الوقت بكتاب فى يده يذكِّرك فورا بالأطفال الذين لا ينامون إلا والعروسة فى حضنهم (دبدوبة الحبوبة)، ثم حين اكتشف على طه أن حبيبته انحرفت (وهى نتيجة طبيعية لتعاليم أوجست كونت!) فكل ما فعله على طه أن نظر فى السقف وتأمله فى جهامة ثم نظر إليها ساخطًا شاخطًا ثم أمطرها بالكلام عن الزمن الردىء والمستقبل البرىء وضرب نظره للسقف ومشى.. ميت حسرة على الرجالة! لكن على طه لم يكتفِ بما فعله، أو فى الحقيقة بما لم يفعله، بل واصل مواجهته للفساد بالنظر إلى السقف فى جهامة، وبعد تخرُّجه فى الجامعة قرر الكفاح فى الصحافة ورفض الالتحاق بركب الجرائد الموجودة (طبعا لأنها مقروءة) واختار إصدار جريدة اشتراكية من بير سلّم، وقد حدد سياستها التحريرية بخطبة عصماء وجهها (أرض أرض) إلى زملائه المحررين (وكلهم ثوار طبعا، وأشكّ أن أحدا منهم يفهم فى الصحافة)، وركز على طه على أن تخلو جريدته من زخارف القول كى تكون جادة ومؤثرة فى الناس، ولم يقدم الفيلم لنا أى معلومة عن توزيع مجلة على طه الاشتراكية أو مدى تأثيرها، ولكن استنادا إلى التاريخ والحاضر فهى لم تكن توزع أكثر من ستين نسخة معظمها فى بارات وسط البلد، بل من الواضح فى الفيلم أن حبيبته سعاد لم تكن تقرؤها، وإذا كانت حبيبته لم تعصر على قلبها ليمونة وتقرأ المجلة فمن إذن جرؤ على قراءتها؟ إنها مجرد أوهام على طه عن الكفاح والنضال، مجرد هلاوس على طه عن تغيير الناس بكتب لا يقرؤونها ومجلات لا يشترونها لأنها بعيدة عن أفكارهم ومشاعرهم وأحاسيسهم، لأنه لا بد للمثقف من أن يعانى، فقد مرض على طه وأخذ يكحّ كما كان كل مرضى السينما المصرية يكحُّون!